يَحْيَ حَيْ ولم يمت السنوار، بل ماتت الإنسانية وانتحر ضمير العالم وهو يشاهد في صمت ووهن المذبحة تلو المذبحة والمحرقة بعد المحرقة ولا يهتز له جفن، مات من يرى لحم الأطفال المقطع وعظامهم مكسرة تحت ركام البيوت الآمنة، ومن يرى تفجير المدن وعمليات التطهير العرقي الواضحة ولا ينبس ببنت شفة. مات من تخلى عن آدميته وارتضى لنفسه المنزلة الأدنى في سلم المخلوقات. حر طليق هو السنوار وشهيد حَيْ، ومن ماتت هي أمة المليار، أمة “التُّقَى والايثار والخوف من الله ودولة الحق”، وبين سجدة وأخرى تتدثر بما استطاعت من فتاوي الردة والفتنة وفُجْر العمائم وسفاهتها. ما مات السنوار، بل همد وقضى رؤساء وملوك اعتلوا الحكم من باب الصدفة والخدعة ووهن الشعوب والأمة، مات موتة الجِيَّفِ الملطخة بالدم والعار شيوخ نفط لا يغطي عُريهم وعِلَّتهم الا عباءات حرير لن تنفعهم متى جاء الشهيق الاخير، من مات وانقضى ومُرِّغ في الوحل هم قادة جيوش العرب حين يصبح مسدس فدائي أشجع وأثقل منهم نفرا وعتادا، مات جنرالات وضباط مُثْقلين بالنياشين والأساطير الزائفة ولا فرق بينهم وبين الفرق النحاسية باستثناء الصخب، أصحاب القرار والنُّثار والهاوية، من مات هي نُظُم الدَّرَك الأسفل المَحْمية من دَسَس وعسس مكسوري الإرادة والكرامة والهيبة.
لم يمت السنوار، بل صار حيًّا في قلب وضمير كل انسان حر، عانق السماء في مشهد يحاكي الروعة وسط ذهول أعدائه ورعبهم، ولولا حرارة الدم وعِزِّهِ وعَزِيزه، لولا دمك النفيس يا يحي ما كنا لنشهد رجلا على أريكة وسط خراب الدنيا يواجه وحيدا وبقراره، طائرات ومدافع العدو وذخيرته عصا ومسدس ورباط للزند النازف والكوفية المقاومة توشح رأسه، يا لعظمتك وسحر تلك الصورة المحفورة في مآقينا وأعماقنا، ويا لجلال الأنفاس الأخيرة. تعجز الأقلام والأفلام والروايات والخرافات على تخيل مشهد بهول وَمْضة استشهادك.
كعصا الأنبياء عصاك يا يحي عماد للذكر والذاكرة، ودليل الحيارى والتائهين والصامدين وسلاح من لا سلاح له. هذا رباطك يا يحي وتلك قصورهم، وهذه كوفيتك ولثامك وذاك رخائهم وترفهم وكذبهم وجبنهم. هذي أريكتك بلون الخراب وشكل قبح العالم أوثر من كل كراسي العفن، أريكة جلست عليها شامخا وسط دمار غزة متحديا عدوك وارهابه الأرعن، وتلك مناصبهم ورتبهم وألقابهم ونياشينهم الصدئة وصبيانهم وغلمانهم وذلهم، شواهد على جريمتهم ودمك يلطخ وجوههم الباردة الواجمة بلا حياء ولا حياة.
كنت لتموت يوم الورم في رأسك، حين اكتشف جلادك، وأنت الأسير المعتقل الأهم، اصابتك بالسرطان، لكنك بقيت حيا، ناظرا بحكمة ربك مسيرة كفاح تنتظر، يومها ارتعب الصهيوني من موتك، وأنت تقود من عنبر السجن مفاوضات شاليط الشاقة في صفقة الأحرار، وبجدارة القادة ومن بيده السؤال والجواب، تحديتهم ووضعت شروطك، وكأن مفتاح المعتقل في جيبك. فيا لسخرية القدر، حينها هرع الصهاينة لإنقاذ حياتك جزعا على شاليطهم فشفيت، وخرجت حرا وانطلقت الى غزة فاتحا منتصرا على سجانك، وخضت معركة الفرز والفصل وإعادة التأسيس وتوضيح المسارات وتوحيد الجبهات واسترجاع الحليف وكسب الصديق، وبنيت جسر العبور مع الجنوب المقاوم وعرين الأسود وناديت الفصائل إخوة لك في الجهاد لميعاد الاقتحام، وفي عقلك عنوان واحد: الطوفان.
كنت لتموت ألف مرة ولكنك اخترت شكل استشهادك وأعلنتها من فوق المنابر، ما أسمى ما عشت يا سنوار وما أبهاه وما أنبل النهايات الفاتحة لأبدع البدايات.
وأنت تحلق كالبراق، كان إعلام الأعراب المُسيَّجِ بروائح الدولار، ينعى استشهادك بفجاجة ووقاحة لم نعهدها، والرؤساء والفقهاء والمشايخ يتبادلون تهاني رحيل السنوار، وعُلقت صورتك بحجم حائط في تل ابيب المحتلة كاثبات إنتصار عظيم لكيان مدان ومهزوم، ونطق رئيس أكبر قوة في العالم، ليقول الآن العالم أئمن بغياب السنوار.. هل تتخيل مقدارك وشأنك في التاريخ ورعبهم منك حيا، كما لو كنت قُفْل توازن الشرق والغرب وخط إستواء الأرض..
وأنت تحلق للعُلاَ ساخر من حقارة وضآلة عدوك، أطلق رجال الله سهما ناري في سماء قيسارية وأُحْرِق بيت رئيس حكومة الكيان الغاصب فتحول الى هارب مذعور ومصيره مجهول، وهرع المقاومون في غزة لمقارعة العدو وطرده، واستأنفوا معارك الشرف في مخيم جباليا وباقي ساحات غزة، بكمائن واقتحام وقنص وتطويق وغرس للعبوات الناسفة، وقتلى العدو من جند وضباط يُحْمَلُون خلسة بالمروحيات على عجل وعجلة، إعجاز ميداني لا يقبله عقل عاقل ولكنه حقيقة أبناء الأرض الاوفياء وأشاوس مقاومتنا الباسلة. ومن الأردن عبروا وثأروا لدمك بعملية استشهادية نالت من عدوك في مقتل، فلا أمان في كل اتجاه، ومن العراق مُسَيَّرات تغزو سماء أم الرشراش ولا تَكَلْ، وصافرات الإنذار تدوي في كل أماكن الأرض المحتلة ومعاقل العدو كما لو كنت حاضرا في المعركة، لم يتغير شيئا أبدا ولن، سماء حيفا لا تهدأ وصواريخ رجال الله تزدحم في أجوائها وتشعلها دمارا على العدو، وبيانات رجال الصمود في الجنوب الأغر تطلق إنذارات حزم أمتعة العدو والرحيل من الأرض المباركة. لازالت مظاهرات المطالبة بصفقة تحرير الأسرى تدور في نفس الحلقة والشارع، لم يتقدم الأعداء يا سنوار بل اشتعل دم المقاومين أكثر وأكثر وكرة اللهب تتعاظم وتكبر لفجر يأتي بروحك محاط بعشاق الإصرار الى ميعاد الانتصار وصوتهم يعلو: انه لجهاد نصر أو استشهاد..
وأنت ترتفع الى العلياء محاربا مقداما، منتصرا على القبة والمقلاع، أُطلق اسمك على مواليد سبع في بحر ساعتين من استشهادك، وتوالدت الأرائك المنتصبة في الساحات، وانتشرت صور العصا والرباط، وفي مكان آخر حول العالم غرد وتفاخر بك رجال ونساء بكل اللغات واللكنات وقالوا، ما مات بل شاهدناه حيا، طليقا أبيا شامخا مهابا عصيا، ما مات بل مازال حيا.
الى المجد والخلود يا يحي.
هند يحي