عمل الكيان الإرهابي تاريخياً على بناء وترسيخ صورة زائفة له، تظهره بمظهر القوّة المفرطة والقدرات غير المحدودة والحنكة الفائقة والدهاء غير المسبوق، والتفوّق الأمني والاستخباراتي الذي لا مثيل له. إلّا أنّ عملية السابع من تشرين الأوّل التي نفذتها المقاومة الفلسطينية من غزّة – باعتبارها أوّل عمليّة في معركة طوفان الأقصى – نجحت في تبديد هذه الصورة والكشف عن مَواطن وهن وضعف الكيان، على المستوى العسكري والأمني وأيضاً على مستوى التخطيط والإدارة. ثمّ جاء مسار الطوفان لمدة عام تقريباً لإثبات مدى الانكشاف الأمني والاستخباراتي للكيان، وحدود قدراته العسكرية والتقنيّة وتخبطه التخطيطي والاستراتيجي. ما ساهم في استكمال تبديد صورة الوهم وتقديم عبارة “أوهن من بيت العنكبوت” كبديل مستحق عن عبارة “الجيش الذي لا يقهر” الزائفة.
لا نرمي من هذه المقدمة إلى القول أنّ قدرات الكيان تعادل صفر. فالكيان مدعوم من الإمبريالية والصهيونية العالمية وكثير من الأنظمة العربيّة، والتي وضعت تحت تصرّفه مقدرات ضخمة من الأموال والأسلحة والذخائر والمعلومات والتقانة، والتكنولوجيا والخبرات الاستخباراتية والأمنية المختلفة. كما يحوز الكيان مجموعة من الأنظمة الدفاعية والهجومية العسكرية والسايبرية المعقدة ومنظومة أمنية واسخباراتية متقدمة، إذن قدراته لا تعادل صفراً ولكن من المؤكد أنّها محدودة. ولم يكن ممكناً تبيان الفرق بين قدراته الحقيقية وقدراته الزائفة إلّا من خلال المعارك الحقيقية، وقد كشفت معركة الطوفان الكثير من هذه الحدود، بل كشفت أيضاً أنّ الفرق بين قدراته الحقيقية وقدراته الزائفة أوسع بكثير من المتوقع.
فمنذ اليوم الأول للطوفان تهاوت العقيدة الأمنية الصهيونية، ودخل الكيان بمستوطنيه وقيادته العسكرية والسياسية في حالة صدمة وذهول لم يستيقظوا منها حتى اللحظة. وحَفِل مسار الطوفان بالعديد من الأمثلة التي كشفت الارتباك والتخبط والضعف والوهن الأمني والسياسي والاقتصادي والعسكري لدى الكيان، وانبرت العديد من الأصوات والأقلام الصهيونية والأمريكية وغيرها – من خبراء ومحللين ومتقاعدين وقادة سابقين – تصيح من كل حدب وصوب، دون أن تصل صيحاتها آذان القيادة التي أصمّتها الصدمة؛ صياح لا يخلو من تأكيد ثبوت الهزيمة الاستراتيجية في اليوم الأوّل، والتحذير من أنّ المسار الذي تتبعه القيادة الحالية للكيان الإرهابي ليس إلّا مسار الجحيم والزوال والوقوع المستمر بالأفخاخ.
رغم كل ذلك ولأسباب مختلفة فإنّ الكثير من المحللين والمثقفين العرب ما زالوا يفكرون من داخل بطن البعبع. فينظرون للوقائع والمجريات والمسارات ويقيّمونها من خلال افتراضات مترسبة في الوعي العربي، ومرتبطة بشكل مباشر بصورة الكيان الزائفة والمتخيَّلة، والتي تفترض قدرات عالية وحنكةً ودهاءً فائقين.
فإذا ما قلنا أنّ الكيان فشل ويفشل في تحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة، تظهر هذه الأصوات لتقول لا لم يفشل، وتفسر ذلك بوجود خطط سريّة وخفيّة وأهداف أخرى. وإذا قلنا أنّ الكثير من الخبراء والمحللين الصهاينة يقرّون بهذا الفشل، قالوا هذه خدعة إعلاميّة.وحين عجّت شوارع الكيان بالاحتجاجات بمئات الألوف، والتي تعرّضت للقمع والعنف من قبل شرطة الكيان وأجهزته القمعية، وقلنا وقتها أنّ ظهور هذه الاحتجاجات في ظل حرب وجودية، هو دليل وهنٍ وانهيارٍ في الجبهة الداخلية، قالوا لا هذا دليلٌ على قدرة الكيان على الحفاظ على الديمقراطية رغم الحرب!
وحين أدارت الصهيونية العالمية حملة إعلامية ضخمة، ترافقت مع مجازر البيجر واللاسلكي، وتصاعدت عقب سلسلة الاغتيالات واغتيال سماحة السيد “أمين عام حزب الله” بغرض التأثير على الجبهة الداخلية اللبنانية، والحاضنة الشعبية للمقاومة، والإيحاء بأنّ حزب الله يعاني من اختراق أمني عالٍ، وأنّ هياكله وبنيته التنظيمية الآن مفككة ومرتبكة – ورغم جهود إعلام المقاومة لتفنيد كل هذه المزاعم التي تم تفنيدها أصلاً من خلال الوقائع والمجريات الميدانية – ظهرت هذه الأصوات من جديد لتحلل وتضخم الاختراق الأمني وأسبابه وآثاره، مدّعية بذلك الحرص على المقاومة! وهي بهذا بقصد أو دون قصد لم تكن إلّا أقلاماً إضافية -ولكن مجّانيّة- في سوق الإعلام الصهيوني وأجنداته.
وفي كل مرة حاول فيها الكيان التفلّت من إطار حرب الاستنزاف المنهكة، وفي كل مرة حاول فيها إرباك إيقاع المعركة الذي تتحكم به قوى المحور، بتنفيذه سلسلة من الاستفزازات العسكرية والإعلاميّة لإيران أو سوريا، خرجت هذه الأصوات من جديد مطالِبةً إيران وسوريا، أو غيرها من مكوّنات المحور بالاستجابة لهذه الاستفزازات بسرعة! وعندما لم يُخضِع المحورُ إيقاعَ المعركة لاحتياجات الكيان ولم يستجب لهذه الأصوات، تحوّل بعضها إلى مربع التخوين والتشكيك، وتخيّل المؤامرات والانشقاقات على أساس المصالح الضيّقة لمكوّنات المحور المختلفة، وهو بذلك تحوّل لحجر بيد الصهيونية تصيب به عصفورين: عصفور الاستفزاز لإرباك إيقاع المعركة، وعصفور تفكيك وحدة المحور.
على كلّ يمكن سحب منطق هذا التفكير على الموقف من روسيا، والتي كان لها أدوار رئيسية في تعزيز قوّة مكوّنات المحور، خاصة سوريا وإيران، وفي توفير الغطاء الدبلوماسي والإعلامي للمعركة، وهي التي تخوض حرباً مفتوحة ضد الغرب الإمبريالي. وقد ذهبت لتوقيع اتفاقية “شراكة استراتيجية شاملة بين روسيا الاتحادية وجمهورية إيران الإسلامية” في الثامن عشر من أيلول الماضي، موصلة رسالة واضحة تلقفتها الولايات المتحدة مباشرة، وفهمت منها أنّ روسيا في علاقتها الاستراتيجية الشاملة مع إيران تتخلّى تماماً عن أي علاقة مع الكيان.
ورغم كل هذه الوقائع، ماتزال هذه الأصوات تشكك بالموقع الروسي من الإمبريالية والصهيونية وتطالبه بتدخل أسرع وأقسى! متخيّلة أنّ قرارات الدول وخططها، تتحرّك بسهولةِ وسرعةِ النقر على زرٍّ لنشر منشور على صفحات التواصل الاجتماعي. ورغم كل الأدلة والتفاصيل والوقائع، التي تقول بوضوح وجلاء أنّ هزيمة الكيان تمّت فعلاً في السابع من أكتوبر الماضي، وأنّ كل المسار بعد ذلك لم يكن إلّا تأكيداً وتعميقاً لهذه الهزيمة من جهة، وفضحاً لوحشيّة ودمويّة الكيان الإرهابي من الجهة الثانية، تظهر هذه الأصوات من جديد لتقدم أطروحات مناقضة للوقائع والمجريات.
والحقيقة أنّ التفسير الوحيد لهذه الظاهرة العاجزة عن رؤية الواقع كما هو، والتي تملك قدرة عجيبة على تخيّل كل هزيمة وفشل صهيوني باعتبارهما نجاحاً وانتصاراً، هو أنّها ظاهرة تفكّر من بطن البعبع الصهيوني المتخيَّل والزائف، وأنها فقأت عيونها بأقلامها، وركّبت مكانها عيوناً بعبعيّة.
علي حمدالله – فلسطين