قد يبدو العنوانُ غريباً لشريحتينِ من المتابعين، الأولى تلكَ التي لا تعرفُ دورَ سورية في الصِّراع مع العدوِّ في كل مراحلِه عموماً وفي ملحمةِ الطوفانِ خصوصاً، والثانية من لم تستطع أن تقرأ وتُقِرَّ بما أنجزته المقاومةُ حتى الآن من مقاتِلَ موجعة في حلفِ العدوِّ؟!
إنَّ من يدركُ جيداً دورَ سوريَّة المحوريّ في الملحمةِ التي تتلاطمُ العدوَّ الآن ممتداً من تل أبيب إلى واشنطن، يجبُ ألا يُفاجأ بسوادِ عنوانِ التَّفاهُماتِ والتفاوضِ الذي تمثّلَ باجتماعِ الفصائلِ الفلسطينيةِ كلِّها في الصّين وتوافَق على صيغٍ تقبلُها ليس قوى المقاومة فحسب بل والسلطة الفلسطينية معها!!، وتمثَّلَ كذلك بالسَّيرِ خطواتٍ مهمة في تفاهمِ الرياض-صنعاء على حلِّ القضايا العالقةِ والمفصلية والتي كادت تودي بالمنطقةِ إلى تصعيدٍ خطير سيكونُ أكثرَ إيلاماً لأمريكا من أي طرفٍ آخر في المنطقة وفقَ محدِّداتِ المحور في هذه المرحلة؛ وثالثاً يتمثّلُ بخروجِ المجرمِ نتنياهو خاليَ السلاحِ من أمريكا عائداً بخُفّيْ مذلَّتين: عدم قدرة أمريكا على تزويده بمتطلباتِ معاركِه التي تنطَّحَ لخوضِها سواء في الجنوبِ اللبناني أو سواه، وإرغامه على العودة إلى التفاوضِ مع المقاومة بعد حصيلةِ الهزائمِ التي مُني بها حلفُ العدوِّ والتي راكمت على رأس أمريكا المخاطر الكبرى قبل الكيانِ ذاتِه!
لماذا دمشق؟!:
ليس خافياً على أحد أن الطُّوفانَ ما كان له ليكون لولا انتصارُ سوريا، وأكثر من ذلك لولا إصرارُها مع حليفتِها إيران أثناءَ حربِها الضروس على استثمارِ فوضى المنطقة التي افتعلَها العدوُّ لتزويدِ المقاوماتِ في لبنان وفلسطين والمحور كلِّه بكل ما أمكنَ من أنواعِ السلاحِ والعتاد ولا نُغالي إن قُلنا والتدريب أيضاً.. وسواءٌ اعترفَ البعضُ بهذه الحقيقةِ أم أنكروها فإنَّ اعترافاتِ العدوِّ التي تفلَّتت من عِقالِ السيطرةِ غيرَ مرَّة كفيلةٌ بتثبيتِ ذلك، فقبلَ الطوفانِ بأشهر تم تسريبُ تقاريرَ أمنية من داخل الكيان تفيدُ بعنوانٍ وضعه الصهاينةُ أنفسُهم وهو :”بشار الأسد يقتُلُنا بسلاحِنا”، ومختصرُ التقرير يدور حول التأكيد على أن السلاحَ الذي دفعت أمريكا ملياراتِ الدولارات ثمناً له لتسليحِ المجموعاتِ الإرهابية قد صادره “جيشُ النظام” السوري على حدِّ تعبيرِهم الذليل، وأرسلَه “للعصاباتِ الإرهابية” في فلسطين على -حدِّ تعبير التقرير- “لتُقاتلَنا به”!
وتحدّث التقرير عن ملحمة سيفِ القدسِ وسواها من المواجهاتِ التي أربكتِ العدوَّ وتسبَّبت له بما لا ينتظر ولا يتخيّل ولا يحتمل!!
وكذلك ما صرخَ به نتنياهو قبيلَ الطوفان بأن: “كل ما يحدث في إسرائيل سببه بشار الأسد وسأنتقم منه”!.. لم يسعفه الوقتُ لينتقم (مع جزيل الشماتة)!
وبعد الطوفان جُنَّ جنونُ نتنياهو بعد اجتماعٍ أمني وقال: “كل ما يؤذي إسرائيل هو في سورية”!
تلقى نتنياهو الكثير من التأنيبِ من رفقائه المجرمين في ذات الحكومة على هذه التصريحات لأن العدوَّ ذاته حريصٌ على ألا يُعطي سورية ما يفيدُ بدورِها المحوريَّ في كلِّ هزيمةٍ يتلقَّاها العدوّ..!
بكل الأحوال في جيوسياسيةِ المنطقة، فإن المُقدِّماتِ والمتونَ والخواتيم تُقرأ مِن وفي دمشق، فانتصارُ سورية أنذرَ العدوَّ أن “إسرائيل” لم تعُد بأمان كما كانت أثناءَ الحرب على سورية وكما حلُمت في أوهامِ إسقاطِ دمشق، وبشَّرَ الصديقَ والحليف بأنَّ المواجهةَ المُنتظرة مع العدوِّ الأصيل باتت أقرب!!، قرأ ذلك بايدن الخرِف نفسُه عندما دُعي السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين وقالَ بأن هذا يتهدُّدُ أمنَ أمريكا!، قراءةٌ لقَّنته إياها الدولة العميقةُ في الحقيقة.. ونوافقُ عليها على الرغمِ من كراهية أن توافقَ عدوَّكَ على رأي، (مع جزيلِ الشماتة).
إذن في التوازاناتِ الطبيعيةِ لِحَقِّ التاريخِ والجغرافيا تُعبِّرُ الاعتباراتُ الدُّوليةُ عن نفسها وتغيير توازناتها وسياساتِها من خلالِ بلورةِ ذلك في دمشق بوصفِها عمودَ المحور جيوسياسياً، إذن علينا أن نقرأ عنوان كلِّ مرحلة من دمشق!
وعليه فإن التقاربَ التركيَّ الذي لهثَ وراءَه أردوغان مؤخراً وقلنا بأنه حقيقيّ هذه المرة باللُّزومِ للمعطياتِ الجديدة لا بالثقة أو عدمِ الثقةِ بأردوغان، هو مُقدِّمةٌ لتفاهماتٍ مضطردة ستحدثُ على بقيةِ جبهاتِ المحور، فهو يُعبِّرُ عن لغةِ العدوِّ وخطِّه الذي يهمُّ بالدخولِ إليه ويحاول أن يجدَ له صيغةً في دمشق..
أجندة إعلامية تحاولُ تنحيةَ سورية، ودمشقُ تخطُّ العناوين، ماذا قصدَ الرئيسُ الأسد بتصريحاته:
دائما ما تكون تصريحاتُ الرئيس الأسد السهلَ الممتنع، وحيث تجدُ أنك تفهمُها وأنها واضحةٌ للغاية يتبينُ لك أنها حمَّالةٌ لأوجهٍ أكثر عمقاً وقوةً وأبعدَ مدى في الزمانِ والمكان؛ فقد حرص الرئيس الأسد طوال ظهوراتِه الماضية بدءاً من لقائه بالإمام الخامنئي حفظه الله أثناء التعزية بالقادة الإيرانيين الذين قضوا في حادثٍ مؤسف في المروحية الخاصةِ بالسيد رئيسي الرئيس المرحوم ووزير الخارجية ومن معهم رحمهم الله، وليس انتهاءً بلقائه المستشارَ الأكبر للرئيس الإيراني المُنتخَب حديثاً في دمشق، حرص على تكرار عبارات ضرورةِ الثباتِ وعدمِ التراجعِ ولا خطوة واحدة إلى الوراء مع العدو لأن أي تراجعٍ سيعني التفريطَ بالمُنجز!!
تصريحٌ عبَّرت عنه المقاومةُ الفلسطينيةُ مراراً في كلِّ جولاتِ التفاوض التي قال سماحةُ السيد حسن نصرُ الله بأن المقاومة الفلسطينية فيها تفاوضُ بالنيابة عن المحور كلِّه!!، وكذلك تجسَّد في ردِّ السيدِ الرئيس بشار الأسد على دعواتِ أردوغان المتكررة إلى اللقاء وطيِّ الماضي ووو إلى آخره من العباراتِ الرومانسية المستجدية عندما سئلَ عن ذلك من قبل صحفيين أثناء مشاركته في الاستحقاق الدستوريِّ الوطني في انتخابات البرلمان السوريّ مؤخراً، فعلى حدِّ قولِ أردوغان: ما الذي يمنع أن يلتقي بالرئيس الأسد؟!، لقد التقى به من قبل؟!! (وكأن طولَ الافتراق كان بسبب حرارة أو برودة الجو، لا بسبب سلوك احتلاليٍّ عدوانيٍّ ورَّط أردوغان نفسَه به وبدأ يذوقُ ويلاتِ نتائجه منذ تحرير مطار كويرس وإن شئتم منذ تحرير حلب)!
التنسيق بين المقاومة الفلسطينية ودمشق، سورية تضعُ منجزاتِها في سلةِ المقاومة:
الآن نفهمُ أكثر، أنَّ ما حدا برئيسِ سورية إلى كلِّ هذا التأني في الملفِّ التركي وسورية تنتظرُ منذ سنواتٍ أملاً في فكِّ الخِناقِ عنها، هو ترحيلُ المُنجزِ السوريِّ لتكون نسخةٌ منه في بنكِ المقاومةِ في التفاوض، ورُبَّما هذا ما أُخبِرَ به نتنياهو في واشنطن ليعود بصفعةٍ سورية ردَّته على أعقابِه كما فعلت بالأمريكي!
بالألم نشرح!:
هل فهمَ الأمريكيُّ الذي أوعزَ للتركيِّ أن يصالحَ دمشق أن سورية لن تُصالِح ما لم تُلبَّى طلباتُ المقاومة؟!، وفي ذاتِ الوقت ما لم يحصُل ذلك فإن طلبَ أمريكا عبر وسطاء من سورية للكفِّ عن استهدافِ قواعدِها في سورية والعراق على أن تضعَ خطَّةً للخروج من المنطقة وفق جدولٍ زمني محدَّد سيصبِحُ طلباً لاغياً؟!
لمَ لا، وكلُّنا يجبُ ألا ينسى أن قادة المقاومة يكررون على مسامعنا دائماً أن الحربَ في حقيقتِها هي مع الأمريكيَّ بالدرجةِ الأولى “رأس الأفعى والشيطان الأكبر”، وقد وصلَ الخطرُ الذي يتهدَّد أمريكا إلى حدِّ الاحترابِ بين رؤوسِ الدولةِ العميقة والذي عبّرَ عنه حادثُ محاولةِ اغتيالِ ترامب الحقيقي؟!
وغيرُ خافٍ على أحد أن المواجهة بين المحورِ وحلفِ العدوِّ في أي تصعيد قادم، وحتى في حال استمرارِ العدوِّ بجرائمه في غزة سيكون مصيرُه أن يتلقَّى ما يتلقّاه خصوصاً بعد تزويدِ سورية حزبَ الله بسلاحٍ خطيرٍ من شأنه أن يجرّدَ “إسرائيل” من آخر ما تبقى في حوزتِها من سلاح فعَّال وهو الطيران الحربي، فقد صودِرت أسلحةُ الكيان بالياسين 105 وشواظ وبركان والطوفان ويافا وغير ذلك من سلاحِ غزةَ وجبهاتِها!، ولم يبقَ في حوزتِه العسكرية بعد أن حرَّرَ اليمنُ بحارَ غزة من أسرِ أمريكا سوى سلاح الجوّ المُدمِّر!
واقعٌ ميدانيٌّ وسياسي يدفعُ الدولةَ العميقةَ أن تضربَ يدَ نتنياهو وتُبلعَه لسانه وتقول له: “اخرس وفاوض”!!
أخيراً.. من دمشقَ إلى غزَّة.. أسمِّي الترابَ امتداداً لروحي:
إن الاستفاضةَ في شرحِ بعضِ القطبِ الخفية التي تضطلع بها سورية لا يعني أبداً أن شيئاً من ذلك كان سيتمّ لولا صمودُ غزة العظيمة بمقاومتِها الباسلة وبأهلها المرابطين، ولولا أهمية ما قامت به كل جبهات المقاومة بدورِها في هذه الجولة من الصراع… فحيثُ رسم سايكس بيكو حدوداً زوراً وزيفاً بين دولِنا.. كانت سورية تعلِّمنا على مقاعدِ الدراسة قصائد: “أسمّي الترابَ امتداداً لروحي…. وسنطردهم من حجارةِ هذا الطريق الطويل”، وكنا في المدرسة نؤمنُ بأن الطريق الطويل هو ذلك الذي نتوضأ في دمشقِه لنُصلّي في قدسه.. كما نؤمن تماماً بالله وأنبيائه ورسله وكتبه!!
رئيس التحرير
فاطمة جيرودية-دمشق