يحتدم الصراع الدولي في كل أرجاء المعمورة، براً وبحراً وجواً وفضاءاً خارجياً، وتدور رحى هذا الصراع بالذات في جوارنا المباشر، مغاربياً وإسلامياً، على مسرح غربي إفريقيا في ثلاث دول متجاورة تحديداً هي النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
أعلنت تلك الدول في 6 تموز / يوليو الفائت تشكيل كونفدرالية باسم “تحالف دول الساحل” تبلغ مساحتها أكثر من 2.781 مليون كيلومتر مربع. وعلى الرغم من مساحتها الشاسعة ولقبها الساحلي، فإنها لا تملك منفذاً على أي بحر أو محيط.
في تسمية “تحالف دول الساحل” دلالةٌ جغرافية-سياسية طبعاً، لا جهلٌ بالجغرافيا، إذ إن النيجر ومالي وبوركينا فاسو تنتمي إلى دائرة “إكواس”، أو “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” المشاطئة للمحيط الأطلسي.
ويضم غرب إفريقيا 15 دولة تبلغ مساحتها مجتمعة أكثر من 5.11 مليون كيلومتر مربع، أي أن الكونفدرالية الجديدة بدولها الثلاث تمتد على أكثر من نصف غرب إفريقيا مساحةً، كما أنها تحتل قلبها موقعاً، وحيث يميل القلب، تتبع البقية، ومن هنا نظريات “قلب العالم” في الجغرافيا السياسية.
هذا مهمٌ، لا من زاوية الصراع بين الغرب المهيمن والأقطاب الصاعدة دولياً فحسب، بل لأنه يقع في دائرة إفريقية ذات غالبية مسلمة نحن جزءٌ منها، فضلاً عن كونها محاذية لليبيا والجزائر وموريتانيا، وفيها مكونٌ عربيٌ أو شقيقٌ للعربية، كما الطوارق الأمازيغ الذين ردهم ابن خلدون وغيره إلى اليمن، أو عرقية “الهَوسا” التي تتحدث ثاني أكثر لغة انتشاراً بين عائلة اللغات الأفرو-آسيوية بعد اللغة العربية، والتي تشكل أكثر من نصف سكان النيجر مثلاً. ويذكر أن اللهجة العربية الحسانية، التي تعد من أنقى اللهجات العربية وأقربها للفصحى، تنتشر شمالي غربي مالي، انطلاقاً من المغرب العربي.
ويمثل المسلمون أكثر من 98% من مواطني النيجر، و95% من الماليين، ونحو 64% من مواطني بوركينا فاسو، ويتوزع باقي السكان بين المسيحية والديانات الوثنية الإفريقية القديمة. ويمر “خط التحول الإفريقي” الذي يفصل بين الصحراء الكبرى شمالاً وأحواض الأنهار الكبرى جنوباً عبر غرب إفريقيا.
يفصل ذلك الخط أيضاً، وهو أقرب إلى شريط يضيق أو يتسع بعرض مئات الكيلومترات أحياناً، بين البدو الرحل والرعاة من جهة والمزارعين من جهةٍ أخرى، ومن ثم بين مناطق انتشار الإسلام شمالاً ومناطق انتشار المسيحية والوثنية جنوباً، ويتخذ ذلك أحياناً شكل نزاع “عربي-زنجي” أيضاً، ويمكن فهم الخلاف بين حكومة مالي الحالية والجزائر بشأن الموقف من الطوارق استناداً إلى هذه الخلفية.
بداية سقوط أحجار الدومينو عام 2011
بدأت الحكاية من عدوان الناتو على ليبيا عام 2011، عندما عاد الطوارق منها مع كثيرٍ من الأسلحة الثقيلة إلى شمالي غربي النيجر ومنها إلى شمالي مالي التي سيطروا عليها معلنين “دولة أزواد المستقلة” بين عامي 2012 و2013.
لم يستتب الأمر للطوارق طويلاً حتى سيطرت فروع “داعش” و”القاعدة” على تلك الدولة ليتحول مشروعهم الانفصالي إلى كابوس تكفيري يعم منطقة غرب إفريقيا برمتها، وإن كان يفيض على دول المغرب العربي أحياناً. وكانت الجماعات التكفيرية قد اتخذت جنوبي غربي ليبيا، بعد “ربيع” عام 2011، منطلقاً للتغلغل في غرب إفريقيا.
تمتد منطقة غرب إفريقيا، من الشمال إلى الجنوب، من النيجر ونيجيريا في الشرق إلى السنغال وليبيريا في الغرب. وهناك من يضم تشاد، التي تحدها ليبيا شمالاً والسودان شرقاً والنيجر غرباً، إلى منطقة وسط إفريقيا جغرافياً، لا غربيها، على الرغم من قربها جغرافياً ومن أن المكون العربي الصريح فيها يبلغ نحو 16% من السكان، وأن نسبة المسلمين فيها نحو 60%.
استدعت الحكومة المالية قوات دولية والفرنسيين تحديداً، الذين كانوا يستعمرون معظم غرب إفريقيا ووسطها، لصد التكفيريين، لكن المعركة انتقلت من شمالي مالي إلى وسطها، وكما في سورية والعراق، تحول التكفيريون إلى ذريعة لنشر القواعد الأجنبية في المنطقة.
راحت هجمات فروع “القاعدة” و”داعش”، في الآن عينه، تزعزع استقرار دول غرب إفريقيا ومجتمعاتها، وكانت الجماعات التكفيرية تتمدد وتكتسب مزيداً من الزخم انطلاقاً من بؤرتين: شمالي مالي غرباً، ومنه إلى النيجر وبوركينا فاسو، وجماعة “بوكو حرام” في نيجيريا شرقاً ومنها إلى النيجر أيضاً وتشاد والكاميرون. ويمكن اعتبار ذلك كله أحد التداعيات المباشرة لما يسمى “الربيع العربي”.
بعض العوامل التي سهلت الاختراق التكفيري غربي إفريقيا
لعل بيئة غربي إفريقيا التي تحفل بعشرات المجموعات العرقية واللغوية والدينية، والتي لم تندمج في شعوب متجانسة أغلبياتها، ولا تخلو أمة من الأقليات طبعاً، وعدم قدرة تلك البيئة بالتالي على إنتاج دول مركزية قوية، سهلت الاختراق التكفيري للحاضنة الاجتماعية المسلمة في المنطقة.
كما إن الفقر الشديد، وانخفاض معدلات متوسط الدخل الفردي (نحو 900 دولار للفرد في السنة في مالي وبوركينا فاسو، و670 دولاراً في النيجر)، ووقوع تلك الدول في قاع قائمة مؤشر التنمية البشرية HDI عالمياً، وعجز حكوماتها عن حل مشكلة التنمية وعن تأمين الخدمات الاجتماعية، على خلفية تزايد سكاني عالي الوتيرة، ربما ساهم أيضاً في انتشار فكرة “الحل التكفيري” بين مسلمي تلك الدول.
أضف إلى ذلك أن عاملاً موضوعياً هو تزايد التصحر نتيجة التغير المناخي أو النشاطات البشرية، مثل تدمير الغطاء النباتي واستخدام المراعي والتربة الزراعية بصورةٍ جائرة غير قابلة للديمومة، أدى كله إلى تمدد الصحراء العربية الكبرى بمعدل 5 كيلومترات في السنة. وهذا يعني أن “خط التحول الإفريقي” ينتقل جنوباً بالسرعة ذاتها، ويعني ذلك بدوره تمدد الرحّل على حساب المزارعين، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تزايد الصدامات بين هاتين المجموعتين، ولعل ذلك ساهم في تغذية منطق الغزو الذي ركبته الجماعات التكفيرية في المنطقة.
لماذا تنشأ حاجة إلى دولة مركزية قوية في المساحات الصحراوية الشاسعة؟
يمثل التناقض بين البدو والحضر، أي بين أهل الترحال في البادية والمراعي وأهل الاستقرار في القرى والمدن، واحداً من أهم التناقضات التي نحتت التاريخ العربي قبل الإسلام وبعده. ولم تنهض لنا حضارة يوماً إلا على كتف دول مركزية قوية تؤمّن المساحات الشاسعة وتوظف البدو في خدمتها وتتيح التراكم الرأسمالي في أماكن الحضر.
على النقيض من ذلك، كان انحلال الدول المركزية القوية دوماً مدعاة لانتشار الفوضى وانعدام الأمن وانتشار الصراعات الداخلية واستدعاء التدخل الأجنبي والاحتلالات والفقر والدمار.
وكانت قوى الطرد، بعيداً من المركز، عناصر تفكيك، وقوى الجذب، باتجاه المركز، أساس المشروع النهضوي العربي منذ بدء التاريخ. لذلك، لا يمكن فهم المشروع النهضوي العربي إلا كمشروع تأسيس دولة عربية مركزية واحدة، كما بسطت في مواضع أخرى.
أضف إلى ذلك أن مشروع العولمة اليوم هو مشروع تفكيك الدول المركزية والمجتمعات المتجانسة الذي يقوده رأس المال المالي الدولي، وما الهجوم على “الدولة الحديثة”، من نمط “بوكو حرام” مثلاً، أي منع الكتب والمدارس، إلا جزءٌ من برنامج العولمة، حتى لو تغطى المهاجمون بذرائع تدّعي الأصالة في مواجهة التغريب الذي ينفذون أجندته التفكيكية موضوعياً.
ليس من المستغرب إذاً أن يتخذ الصراع الدولي اليوم، من روسيا والصين إلى جنوبي الكرة الأرضية، شكل الدفاع عن الدول المركزية المستقلة ووحدة المجتمعات في مواجهة مشاريع تفكيكها. وليس من المستغرب أن تتخذ مواجهة مشروع تفكيك دول غربي إفريقيا شكل انقلابات تسعى إلى تأسيس حكم عسكري مركزي يمثل الرد الطبيعي على حالة الانفلات والتشظي في بيئة تتكون أصلاً من موزاييك عرقي ولغوي وقبلي.
الكيل بمكيالين بشأن انقلابات غربي إفريقيا
ليست الانقلابات جديدة في بيئة غربي إفريقيا، لكنّ انقلابات مالي في 24/5/2021، وبوركينا فاسو في 30/9/2022، والنيجر في 26/7/2023، أتت بنخب حاكمة ذات توجهات أثارت حنق الغرب الجماعي وأدواته دون غيرها من انقلابات المنطقة.
جرى إخراج القوات الفرنسية من الدول الثلاث، والقوات الأمريكية التي كانت موجودة في النيجر ومالي، كما جرى تعزيز العلاقة مع روسيا والصين. والآن، يهول الغرب أن انسحاب قواته سوف يؤدي إلى تزايد النشاط الإرهابي والتكفيري، فإذا كانت تجربة نقل التكفيريين من الحسكة إلى بادية حمص ومحيط التنف في سورية مؤشراً، لا يستبعد أن يتحقق ما يقوله الغرب فعلياً، كما يُلاحظ منذ أشهر.
تجدر مقارنة موقف الغرب من الضباط الذين يحكمون مالي وبوركينا فاسو والنيجر بموقفهم من انقلابين عسكريين آخرين في محيطهما المباشر، في غينيا التي تقع جنوبي غربي مالي، وفي تشاد التي تقع شرقي النيجر.
ففي غينيا التي يمثل المسلمون 89% من سكانها، لم تكن هناك مشكلة إرهاب تكفيري متفاقمة، لكنّ رئيسها ألفا كوندي فتح البلاد على مصراعيها للشركات الصينية، وخصوصاً في مجال استخراج البوكسيت، الذي تملك غينيا ربع مخزونه عالمياً، والذي يُعدَن الألمنيوم منه. ويشير أحد المراجع إلى أن الصين كانت تستورد نصف حاجتها من البوكسيت من غينيا.
وقع انقلاب غينيا في 5/9/2021 بذرائع “الديموقراطية وحقوق الإنسان”، الأمر الذي دفع الصين إلى التخلي عن تحفظها التقليدي لإدانته، أما الغرب، فأصدر بضعة بيانات وتعامل مع الحكام العسكريين الجدد، الأقرب للولايات المتحدة وفرنسا، بقفازات مخملية، وخصوصاً أن استخراج البوكسيت وخامة الحديد وغيرها من ثروات البلاد عاد إلى عهدة الشركات الغربية والصديقة للغرب.
ويذكر أن حاكم غينيا الجديد، مامادي دومبويا، كان سابقاً ضابطاً في الفرقة الأجنبية الفرنسية legionnaire، وزوجته، لوريان داربوه، ضابط عامل في الدرك الفرنسي حتى الآن، وسبق أن تلقى دومبويا دورات تدريبية في الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
وفي تشاد، قُتل رئيسها إدريس ديبي في معركة مع متمردين (غير إسلاميين) شمالي البلاد، في 20/4/2021، بعد 30 عاماً في السلطة كان من “إنجازاته” فيها التطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي اليوم ذاته، أصبح ابنه محمد إدريس ديبي رئيساً في انقلاب عسكري.
وفي 1/2/2023، دشن محمد ابن إدريس السفارة التشادية في “إسرائيل”. وفي 6/5/2024 أجرى انتخابات رئاسية أعلِن فيها فائزاً بنسبة 61% من الأصوات، على الرغم من تهم المعارضة بالتزوير. ولم يحتج الغرب ويفرض عقوبات كما فعل في حالة فنزويلا، لأن “المطبع في عين الغرب أكبر ديموقراطي”، إذا قسنا بمقياس مثالنا الشعبي: القرد في عين أمه غزال.
حكام “اتحاد دول الساحل” على مسار تصادمي مع الغرب
ليست كل انقلابات غرب إفريقيا سواءٌ إذاً من منظور الغرب، وحكام مالي والنيجر وبوركينا فاسو ذهبوا باتجاه التحالف مع الأقطاب الدولية الجديدة في مواجهة الغرب، كما أنهم أعلنوا خروجهم من “إكواس”، أو “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” التي رأوها أداةً للغرب، وخصوصاً فرنسا، كما أعلنوا نيتهم التخلي عن عملة “الفرنك الإفريقي الغربي” CFA، الذي أبقى السياسة النقدية لمستعمرات فرنسا السابقة في إفريقيا تحت القبضة الفرنسية منذ عام 1945.
يذكر أن CFA كانت ترمز إلى Colonies françaises d’Afrique، أي “مستعمرات إفريقيا الفرنسية”. ثم جرى تعديل معنى الرمز اسمياً في السبعينيات إلى Communauté financière africaine، أي “المجتمع المالي الإفريقي”. ويجري تداول تلك العملة حتى اليوم غربي إفريقيا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إضافةً إلى بنين وساحل العاج وغينيا-بيساو والسنغال وتوغو، ويصدرها البنك المركزي لدول غرب إفريقيا في داكار في السنغال.
صودف أيضاً أن عملة أخرى باسم CFA، بمعنى فرنك إفريقيا الوسطي، تصدر عن البنك المركزي لدول إفريقيا الوسطى في الكاميرون، ويجري تداولها في تشاد والكاميرون وجمهورية إفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية الكونغو.
وصودف أن قيمة فرنك غرب إفريقيا مساوية تماماً لفرنك وسط إفريقيا، وهذا لا يمكن أن يحدث، من منظور علم الاقتصاد النقدي Monetary Economics، إلا من خلال “مايسترو” يدير السياسة النقدية في المجموعتين على إيقاعٍ واحدٍ بالمليمتر. ويذكر أن الفرنك الإفريقي في الحالتين مثبت مقابل اليورو، بعد أن كان مثبتاً مقابل الفرنك الفرنسي قبل تخلي فرنسا ذاتها عنه.
يمثل التخلي عن الفرنك الموروث من عهد الاستعمار الفرنسي شرطاً من شروط تحقيق السيادة الوطنية والتنمية المستقلة طبعاً، لكنّ الإقدام على تلك الخطوة، على أهميتها، ليست بسهولة طباعة عملة جديدة، لأن قيمة العملة يحددها الطلب والعرض عليها مثل أي سلعة أو خدمة أخرى، وكلما ازداد الطلب الأجنبي على صادرات دولة ما أو على الاستثمار في أصولها، ازداد الطلب على عملتها.
ودول “اتحاد الساحل” غنية جداً بالثروات الباطنية، لكنّ معظم ثرواتها لا يجري استغلالها من جراء تخلف البنية التحتية وضعف الدورة الاقتصادية، لذلك تبقى من أفقر دول العالم. والمشكلة في اتحاد تلك الدول أنها تعتمد على تصدير الخامات، الذهب بالنسبة لمالي (72% من صادراتها)، واليورانيوم وزيوت النفط والذهب بالنسبة للنيجر، وبالنسبة لبوركينا فاسو، يمثل الذهب 70 من صادراتها، والقطن 13%. لكنها تعاني، على الرغم من ذلك، من عجوزات كبيرة في موازينها التجارية.
هذا يعني أن اقتصادات تلك الدول متماثلة أكثر منها متكاملة، وهذا يتطلب مشروعاً تنموياً حقيقياً في خضم عوامل كبرى داخلية وخارجية مزعزعة لاستقرارها، وعلى خلفية إرث نهب استعماري ثقيل، وغياب إدراك حقيقي لماهية مشروع التنمية المستقلة الذي حاول النهوض به قادة تاريخيون مثل توماس سانكارا في بوركينا فاسو منذ عام 1983 حتى اغتياله عام 1987، لكن الخطوة الأولى في ذلك المشروع، وهي تأسيس دولة مركزية إفريقية قوية في محيط مضطرب وهائج، يبدو أنها على رأس قائمة أهداف ذلك الاتحاد.
ومن المتوقع أن نشهد المزيد من الاضطراب والفتن والحروب قبل أن تستقر الأمور في ذلك الجزء من العالم.
د.إبراهيم علوش – سورية
مقالات مختارة – الميادين نت