يمكن تلخيص فحوى خطاب الرئيس بشار الأسد بعد القراءة المتمعنة والتحليل في عبارة واحدة: ينبغي الاستعداد لفتح الجبهة السوريّة ضد الاحتلال التركي والاحتلال الصهيوني.
كيف ذلك؟
قدم رئيس الدولة السورية السيد بشّار الأسد خطاباً أمام مجلس الشعب يوم الأربعاء الموافق 25 من آب للعام 2024، تناول فيه مجموعة من القضايا الجوهرية على الصعيد الداخلي والخارجي، عارضاً لخارطة طريق أساسية لاستنهاض مكامن القوّة السوريّة وتحصين مناعتها الداخلية كأساس لانطلاقة نوعيّة على مستوى الأدوار الخارجية في الإقليم وفي العالم.
فحسب تحليل الرئيس السوري في خطابه، فإنّ صعوبة الوضع الراهن الذي يمر به الشعب والدولة السورية يُعزَى إلى الحرب الكونية الشاملة التي شنّها تحالف عالمي وإقليمي مع بعض الفئات المحليّة في العام 2011، والتي ساهمت في كشف مواطن الضعف ونقص المناعة الداخلية في سوريا، وهي ظواهر كانت موجودة سابقاً وبرزت إلى السطح في خضم الحرب، بعض هذه الظواهر يُعزَى لتراكم سياسات ونهج قديمين وبعضها يُعزَى إلى قصور في أداء السلطة التنفيذية ، وبالتالي لا بدَّ من مواجهة الأسئلة الصعبة وعدم تأجيلها والاعتراف بالحقائق والواقع بأدوات التشخيص العلمي الموضوعي الدقيق والتحرر من الأفكار الجاهزة والمقولبة والتخلّص من أمراض إنكار الوقائع والهروب المستمر للأمام، كأساس لتصميم خطة شاملة.
شحذ سلاح الدولة وتحصين المجتمع
سوريا تغيّرت خلال السبعة عقود الماضية كما تغيّر الإقليم والعالم، وتغيّرت قواعد السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة، ولا يمكن مواجهة كل هذه التغيّرات بنفس النهج والعقليّة التي سادت خلال عقود ماضية، ورفض التغيير من شأنه عرقلة جهود التطوير.
وتبدأ الخطة الشاملة بمعالجة واقع الدولة السورية ومؤسساتها وأجهزتها، على أن يكون مجلس الشعب حجر الأساس في هذه الخطّة، لذا لا بد من مراجعة الأنظمة الداخلية وآليات العمل الناظمة للمجلس على أساس مراجعة مفاهيمية شاملة تنتهي ببناء فهم وطني مشترك حول المفاهيم الأساسية المُزمَع تطويرها، هذه المفاهيم تتبلور في رؤية وطنيّة موحدة ينبثق عنها سياسة عامة ويتوّلد عنها خطط تنفيذية شمولية ومفصّلة، وفي هذا المسار لا بدَّ من إعادة توضيح وتوزيع الصلاحيات والمسؤوليات ومعالجة العشوائية الهيكلية في الدولة، على أن يكون ذلك دون تخلٍّ عن النهج الاشتراكي الذي يعزز من أدوار الدولة لخدمة الصالح العام في مواجهة النهج الليبرالي الذي يقوّض أدوار الدولة لصالح حرية حركة السوق بما تمثّله من شرعنة لقانون الغاب ومبدأ البقاء للأقوى، مع ضرورة الموازنة الدقيقة بين مركزية الدولة في الأطر العامة ولا مركزية التنفيذ بتوسيع الصلاحيات للسلطات التنفيذية خاصّة السلطات المحليّة، وهي موازنة ضرورية لخلق مسارات لتطوّر المشاريع الصغيرة والمتوسطة عمود الاقتصاد السوري، فمقياس نجاح هذه المشاريع هو قدرتها على النمو والتطوّر من صغيرة إلى متوسطة إلى كبيرة.
بالإضافة إلى التوكيد على العوامل والشروط العملية والموضوعية والمادية لنجاح أيّة خطة طموحة، يشير الرئيس السوري إلى أهمية الإيمان والثقافة كبنية وجدانية تحتية ضرورية لتحقيق الأهداف والتطلعات، ويدعو مجلس الشعب وبالتالي الشعب السوري إلى استلهام روح الإصرار والإيمان والقتال من تجارب المقاومة العربية والإسلامية في فلسطين ولبنان واليمن والعراق والجيش السوري.
حرب الشعوب المفتوحة ضد النظام العالمي
تتجلّى ضرورة شحذ سلاح الدولة وتحصين المجتمع في القناعة الراسخة بأنّ مكائد ومؤامرات نظام النهب والاستغلال والاستعباد العالمي ضد شعوب وفقراء العالم وضد سوريّة لم تنته، والحرب المفتوحة بين قوى الهيمنة والإرهاب والفوضى مقابل قوى السيادة والاستقرار لم تضع أوزارها بعد، و إنّ سورية والمنطقة أمام مرحلة جديدة من تصاعد واحتدام هذا الصراع على نطاق أشمل وأوسع جغرافياً وقطاعياً من حروب القرن الماضي، وبالتالي فخيار المواجهة في ظل انعدام أي خيار آخر هو ضرورة لا نُدحة عنها، خاصّة وأنّ سوريّة ساحة أساسية من ساحات الصراع العالمي، إذن لا بد من بناء الجاهزية وشحذ السلاح للخروج من دائرة التأثر والانفعال إلى دائرة التأثير والفعل، والانتصار في هذه الحرب لا يتوقف على توازن القوى العسكرية والاقتصادية والتقنية على أهميّتها بمقدار ما يتوقف على توازن الإرادة مع الأعداء على أسس الإيمان بالقدرات الوطنية والعمل الجاد والبحث عن الحلول ، ورفض المستحيل والخضوع والإحباط.
ففي معسكر الأعداء تحوّل تراجع الإيمان بالقدرة المطلقة للمشروع الصهيوني إلى هزيمة نفسية وهذا هو السبب الرئيسي للفشل والهزيمة الفعلية، التي تجلّت على شكل ردة فعل هستيرية غير مسبوقة استفزها سقوط عقود من الوهم أمام ساعات من البطولة في غزة المستندة إلى قرون من الانتماء.
ينبغي شخذ سلاح الدولة والمجتمع لاختراق جدران نهاية التاريخ المغلق الذي يهدف إلى تأبيد خضوع العالم بشكل مطلق إلى الغرب والولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية في المنطقة، ولا يمكن لأيديولوجيا نهاية التاريخ التي تعمل على إسقاط القضايا والأفكار الكبرى كمقدمة لتدجين الإنسان أن تنتصر إلّا بسقوط الشعوب وقضاياها وحقوقها وإيمانها بذاتها وقدراتها وسيادتها.
الصراع مع الصهيونية مستمر ويبدأ في الصراع مع الذات ضد ثقافة الهزيمة ولأجل فكر العزيمة كباب رئيسي لربح معارك التحرير والبناء والاقتصاد والازدهار، فالوضع العالمي الراهن متأزم ووشيك الانفجار ولهذا لا بد من التحرّك بتسارع من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل الانفجار.
الاحتلال التركي والاحتلال الصهيوني
يخلص خطاب الرئيس السوري في خواتيمه إلى التطرق للاحتلال التركي والصهيوني للأراضي السورية، وبالتالي يمكن استنتاج هدف خطة شحذ سلاح الدولة وتحصين المجتمع باعتبارها خطة بناء سريع وشامل للجاهزية لمواجهة النظام العالمي على جبهتين رئيسيتين ترسمان الدور السوري في الحرب العالمية ضد الإرهاب والهيمنة؛ الجبهة التركية والجبهة الصهيونية.
وعلى الجبهة التركية تطرح سورية عنوانين لا بد من حلهما: الاحتلال التركي للأرض السوريّة والدعم التركي للإرهاب، وهي سياسات تبنتها تركيا منسجمة مع تحالفها مع قوى الهيمنة والإرهاب والفوضى ومع عضويتها في حلف شمال الأطلسي الناتو باعتباره الذراع العسكري لتنفيذ المخططات الإمبريالية العالمية وتقويض سيادة الدول واستقرارها، في مقابل عنوانين من جهة تركيا: الإرهاب واللاجئون السوريون، ويؤكد رئيس الدولة السورية موافقته على معالجة العناوين المطروحة من طرف تركيا ووقوف سورية الثابت لصالح حقوق ومصالح الشعوب كافّة والشعوب الجارة بشكل خاص، وفي هذا الخطاب التاريخي لم يأت الرئيس السوري على ذكر أردوغان فحسب بل ذهب إلى تأكيد التمييز من طرف سوريا بين الشعب التركي الجار والنوايا الخبيثة للمسؤولين الأتراك، يأتي هذا التمييز في سياق طرح القضايا المحليّة والإقليمية في سياقها العالمي الأوسع، وتوصيف الصراع العالمي باعتباره صراع بين قوى الهمينة والإرهاب وقوى السيادة والاستقرار، بحيث يمكن التقاط رسالة خفيّة في خطابه، مفادها أنّ سورية وحلفاءَها وفي زمن إعادة ترسيم ملامح توازنات القوى والسيطرة في الإقليم والعالم ينظرون إلى مستقبلٍ قريبٍ للمنطقة ليس لأردوغان وجماعته مكاناً فيه.
ومباشرة بعد ذلك، يربط الرئيس الأسد بين قضيّة إنهاء الاحتلال التركي وإنهاء الاحتلال الصهيوني للأرض السورية من باب مبدأ السيادة، فعند ذكر السيادة يحضر الجولان! مذكراً أنّ أبناء الجولان أثبتوا أنّ غياب السيادة عن الأرض لا يعني سقوط الانتماء الوطني بل ارتقاءه، وأنّ احتلال الأرض لا يعني بيع العرض، وأنّ الوطنية ليست مظهراً أو ادّعاءً بل انتماء متجذّر ووفاء وولاء، وأنّ حصار العقول أخطر من حصار البطون، فحصار العقل مآله الانتحار الجماعي، ويشيد بمقاومتهم لأكثر من ستة عقود تحت الحصار وضد الضم والهوية الصهيونية الفاشية والاحتلال الباغي، وستبقى قولبهم تخفق لسوريّة حتى يعودوا إليها وتعود إليهم، ليربط في الختام بين تحرير أرض الجولان والمعارك التي يخوضها المحور على كل الجبهات، بما يعني أنّ سورية تتحضر لفتح جبهتها الخاصّة، ربما قريباً!
علي حمدالله – فلسطين