محمد بكري… حين ينتصر الصوت الإنساني على آلة القمع
وسام زغبر
عضو الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين
لم يكن رحيل الفنان والمخرج الفلسطيني محمد بكري حدثًا عابرًا في المشهد الثقافي الفلسطيني، بل خسارة موجعة لصوتٍ ظلّ عاليًا في وجه القمع، ولضميرٍ فنيّ اختار أن يقف في الصف الأصعب: صفّ الحقيقة. برحيله، يغيب واحد من أكثر الفنانين الفلسطينيين جرأةً في تحويل الفن إلى فعل مقاومة، والكلمة إلى سلاح أخلاقي في مواجهة الرواية الاستعمارية الإسرائيلية.
محمد بكري، ابن قرية البعنة في الجليل، لم يكن ممثلًا موهوبًا فحسب، بل كان مثقفًا عضويًا حمل فلسطين معه إلى كل مسرح وشاشة. أدرك باكرًا أن الاحتلال لا يخشى البندقية وحدها، بل يخشى الرواية، والصورة، والذاكرة. من هنا جاء فيلمه الأشهر «جنين جنين» عام 2002، لا بوصفه عملًا سينمائيًا تقنيًا فحسب، بل شهادة حيّة على واحدة من أكثر الجرائم الإسرائيلية وحشية في الانتفاضة الثانية.
أقام الفيلم الدنيا ولم يقعدها داخل إسرائيل وخارجها. لم تُغفر لبكري جرأته في كسر الاحتكار الإسرائيلي للرواية، فحورب، ولاحقته المحاكم، وحُرّض عليه سياسيًا وإعلاميًا، لا لذنب اقترفه سوى أنه منح الضحايا حق الكلام. ومع ذلك، لم يتراجع. ظلّ ثابتًا على قناعته بأن الفن ليس زينة، بل موقف، وأن الصمت في حضرة المجزرة خيانة.
في واحدة من أشهر عباراته، قال محمد بكري: «أنا أقوى من إسرائيل». لم تكن جملة استعراضية، بل خلاصة تجربة. كان يقصد قوة الموقف، وقوة الحق، وقوة الإنسان حين يتحرر من الخوف. إسرائيل بكل ترسانتها العسكرية والقانونية فشلت في إسكات صوته، لأن من يمتلك الحقيقة لا يُهزم بسهولة، حتى وإن خسر المعركة الظاهرة.
يمثّل محمد بكري نموذجًا للفنان الفلسطيني الذي رفض الانفصال بين الإبداع والقضية. لم يغوِه الاعتراف الإسرائيلي ولا العالمية المشروطة، بل اختار أن يكون شاهدًا، حتى لو دفع ثمن ذلك حصارًا وتشويهًا وعزلة. وفي زمنٍ تتراجع فيه أصوات كثيرة تحت ضغط القمع أو الإغراء، بقي بكري وفيًا لفلسطين التي في القلب، لا تلك التي تُقدَّم في المهرجانات بنسخٍ منزوعة الدسم.
برحيله، يخسر الفلسطينيون فنانًا، ويخسر العالم شاهدًا شجاعًا على جريمة مستمرة. لكن محمد بكري لا يرحل كاملًا. يبقى في أفلامه، في كلماته، وفي ذلك الدرس البسيط والعميق الذي تركه لنا: أن الفن حين ينحاز للإنسان يصبح أقوى من الدبابات، وأن الحقيقة، مهما حوصرت، تجد دائمًا من يرويها.
وداعًا محمد بكري… كنتَ أكبر من فنان، كنتَ موقفًا.
