العميل بالغريزة: حين تتحول السردية إلى أداة وعي زائف…
بقلم:فاتنة علي_لبنان/سورية الكبرى
ليس كل عميل بالضرورة شخصًا يتقاضى المال، أو يتلقى التعليمات المباشرة من جهة ما. ثمة نوع أخطر وأكثر انتشارًا: العميل بالغريزة.
ذلك الذي تحركه الأحقاد، ويتغذى على قدرٍ لا يُستهان به من السذاجة الفكرية، فيغدو أداة وظيفية دون أن يدري. يصدق ما يُروَّج له، يتلقى ولا يبحث، يسمع ولا يُعمل العقل، لا يُحلّل ولا يُراجع. كل ما يفعله هو تسجيل الفكرة التي أُمليت عليه، وإيداعها في ملفات اللاوعي، ليعود لاحقًا — دون إدراك — فيكررها، ويدافع عنها، ويعيد إنتاجها كما وردت في السرديات الإعلامية الجاهزة.
ولن أطيل في التوصيف النظري، بل أطرح مثالًا واضحًا ومباشرًا.
تهجير غزة: ضجيج إعلامي أم مشروع قابل للتنفيذ؟
في الأيام الأخيرة للحرب على غزة، ومع بداية تداول الحديث عن وقف إطلاق النار، أو حتى في الفترة التي سبقت الإعلان الرسمي عنه، شهدنا ضخًا إعلاميًا مكثفًا ولافتًا حول “تهجير الفلسطينيين خارج غزة”.
هذا الطرح، الذي حظي بتداول واسع، خصوصًا في الإعلام العربي، خطف انتباه المتلقي، فترك كثيرون جوهر ما جرى ميدانيًا، وانشغلوا بهذه السردية الجديدة وكأنها حقيقة وشيكة.
لكن قبل التسليم بأي طرح، ثمة أسئلة منطقية بديهية لا بد من طرحها:
هل هذا المشروع قابل للتنفيذ على أرض الواقع؟
بعيدًا عن تأثيره النفسي والإعلامي، هل يمكن تحقيقه عمليًا؟
هل يُعقل أن شعبًا تحمّل الإبادة، والجوع، والحصار، والقصف، والحرمان، والأسر، وأبشع أشكال التوحش، على مدار ما يقارب عامين كاملين، يمكن أن يستسلم فجأة، أو يرضى بمغادرة أرضه، فقط لأن قوى كبرى قررت ذلك؟
أم أن الهدف الحقيقي من ضخ هذه السردية هو حرف الأنظار عن حقيقة أخرى أكثر إزعاجًا: الفشل الاستراتيجي لـ(اسرائيل) في غزة؟
يذهب بعض الخطاب الإعلامي إلى الحديث عن سيطرة للكيان تجاوزت 57% من مساحة غزة. غير أن هذا الادعاء ذاته يندرج ضمن إطار حرب السرديات.
ففي ظل دمار شامل، وتفوّق جوي مطلق، يمكن اصطناع “وجود” وهمي على الخريطة، دون أن يكون له معنى حقيقي على الأرض.
غزة تحت الأرض ليست غزة فوق الأرض.
وما لا يُرى لا يعني أنه غير موجود.
الترويج لأفكار بعينها، في توقيت محدد، ليس بريئًا. إنه إلهاء متعمّد، وصرف للبوصلة بعيدًا عن الحقيقة الجوهرية:
لقد عجزت (اسرائيل) عن السيطرة الفعلية على رقعة جغرافية صغيرة، بلا تضاريس معقدة، رغم تفوقها التكنولوجي والعسكري والجوي.
وهذا العجز هو ما تحاول السرديات الإعلامية تغطيته، عبر خلق نقاشات جانبية، وتضخيم سيناريوهات غير قابلة للتحقق، لكنها فعّالة نفسيًا.
ما يجري ليس مجرد حرب عسكرية، بل معركة وعي.
والخطر الحقيقي لا يكمن فقط في القنابل، بل في الأفكار حين تُزرع دون تمحيص، وتُردَّد دون تفكير.
العميل بالغريزة لا يحتاج إلى أوامر… يكفيه أن يُسلَّم السردية، وسيتكفل هو بالباقي.
فإن أخطر الهزائم ليست تلك التي تقع في الميدان، بل التي تُفرض على الوعي دون أن يشعر أصحابها.
