مقدمة:

شهد التاريخ الإسلامي في الأندلس مرحلة انحطاط سياسي عُرفت بعهد “ملوك الطوائف”، حين تفككت الدولة الأموية إلى كيانات متناحرة قائمة على العصبيات المحلية والمصالح الضيقة، ما مهّد الطريق للسقوط الكامل.

اليوم، وبعد أكثر من ألف عام، يبدو الشرق الأوسط وكأنه يعيد إنتاج هذا المشهد، ولكن بصيغة حديثة ترتكز على الهويات الطائفية والعرقية، لا كتنوع ثقافي، بل كأدوات للصراع والتفتيت.

في ظل تصاعد النزاعات المسلحة، وتراجع فكرة الدولة الوطنية الجامعة، وتنامي دور المليشيات والهويات ما دون الدولة، تتبلور ملامح واقع جديد يُرسم عبر خرائط غير رسمية لدول مفترضة تقوم علي اساس عرقي وطائفي بدلا عن الدولة الوطنية . هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل يُغذى بتدخلات إقليمية ودولية، وبتراكم فشل الأنظمة في احتواء التعدد، وإرساء عقد اجتماعي عادل تجد فيه القوميات والطوائف حقوقها داخل دولة موحدة لكن بين الانظمة الملكية والاستبدادية تفاقمت اوضاع الاقليات في الشرق الأوسط مابين محو هويتها ومحاولة القضاء عليها بالقوة المسلحة كما في سوريا الجولاني .

فهل نحن أمام إعادة تدوير لمرحلة تاريخية قاتمة؟ أم أن المنطقة بصدد ولادة شرق أوسط جديد، لكن على أنقاض الدولة الوطنية؟

كان غروب شمس الامبراطورية العثمانية وتقاسم تركتها بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الاولي بداية لصناعة ماعرف في الادبيات البريطانية بالشرق الأوسط وظل هذا الاسم متداول اعلاميا لوصف الوطن العربي صنع علي يدي وعناية ضباط المخابرات الانجليز هم من رسموا حدود هذه البلدان وصنعو ممالكها وتوجو ملوكها وتقاسموا النفوذ فيها مع حلفائهم الفرنسيين كانت تلك الحدود وتلك الدول التي صنعت مبنية علي مصالح المستعمر دون مراعاة للشعوب التي تسكن تلك البقاع فقسمت القوميات والقبائل بين الدول وخلقت النزاعات الحدودية بين الدول كحصان طراودة لتدخل قادم مرة اخري باسم حماية الاقليات وحفظ السلام كان الاستعمار قد صنع الدولة الوطنية وبداخلها معاول هدمها وتدميرها كان نموزج الدولة الوطنية في تلك الفترة مثاليا امام تصاعد المد الوحدوي واشواق وطموحات الشعوب العربية والإسلامية نحو وطن واحد ودولة مركزية ترفع رايتها وتحافظ علي حضارتهم وهويتهم امام التغول الاستعماري الذي يدمر تلك الهوية ويراها كمهدد لكن بعد افول شمس الاستعمار وتطلع دول الشرق الأوسط نحو الحرية والانعتاق من الاستعمار وظهور الدولة الوطنية وصعود زعامات ترفض التبعية للغرب وتدعم حركات التحرر ادرك المستعمر ان تلك الحدود المرسومة علي الخرائط لم تؤدي غرضها في تمزيق اوصال هذه الامة كما خطط لها .

في فترة ما بعد الاستعمار ظلت الانقلابات والانظمة الملكية كفرسي رهان كأن الشرق الاوسط في فترة الستينات في فترة حرب باردة علي النفوذ بين العسكرتاريا والانظمة الملكية تدخل فيها القطبين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كان هذه الصراعات استخدمت فيها الاقليات العرقية كادوات في تلك الصراعات لذلك كانت الانظمة الحاكمة تنظر بعين الريبة للقوميات والعرقيات فكان الكبت والقمع وعدم الاعتراف والتعامل مع هذه الاقليات كمواطنين لهم ما للمواطن من حقوق وطمس هوياتهم كان المستعمر ينظر لهذه الاقليات العرقية كمعاول لهدم الدولة الوطنية من خلال استغلال مظلوميتهم وتعبئتهم للثورة والسعي لتفكيك الدولة .

لذلك نجد ان الدولة الوطنية فشلت في التعامل مع التعدديات العرقية والطائفية وفشلت في بناء دولة تحتوي جميع سكانها دون تمييز لايمكن ان نرمي الاسباب علي الدولة فقط لكن عوامل كثيرة كانت السبب فيما وصلنا فيه اليوم من دول علي حافة الانهيار ودول تتآكل من الداخل ببطء واصوات داخل الدول تطالب بالاستقلال وتقرير المصير في ظاهرة قد تعيدنا لفترة ظهور ملوك الطوائف في الاندلس عندما تداعت الخلافة واستقل كل زعيم بما يحوزه من الارض في ظل ظل وجود عدو قوي يحمل مشروع توسعي لا يخفي علي احد من النيل الي الفرات .

من احد اسباب سقوط الدولة العثمانية كان تدخل الدول الغربية لحماية الاقليات داخلها واستخدامها لتوسيع نفوذها في تلك الدولة فالتاريخ قد يعيد نفسه مرة اخري في صورة مأساة فالغربي الذي كان يستغل الاقليات ليجد موطئ قدم داخل اراضي الدولة العثمانية هو نفسه الذي يستغل الاقليات والطوائف لمد نفوذه في الشرق الاوسط الجديد اما مباشرة او عبر وكلائه في المنطقة لاسيما بعد صعود وتنامي النفوذ الروسي والصيني انشغلت الولايات المتحدة الأمريكية عن الشرق الاوسط واهتمت بكيفية تحجيم هذه الدول التي تهدد سيطرة القطب الاوحد علي العالم وخوفها من بروز نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب كان ذلك الانسحاب فرصة مناسبة لظهور الدولة الوظيفية التي خلقت لسد الفراغ الامريكي وخدمة الاجندة الامريكية دون تدخل مباشر منها وصناعة نفوذ اقليمي لتلك الدويلات الطارئة التي بنت امجادها علي ما مقدارما تضخه من نفط في سوق الاوبك .

ظهور هذه الدويلات الوظيفية فاقم من الصراعات في الشرق الأوسط حيث ان هذه الدويلات تتدخل بصورة فجة تدوس علي العلاقات الدوبلوماسية بين الدول والقوانين التي تحفظ سيادة الدول وتمنع خرقها لكن في ظل الصمت والدعم الامحدود نجد هذه الدويلات تشكل معاول مشروع التقسيم والتجزئة الجديد فسايكس بيكو العصر الحالي لن يكون انجليزيا بل عربيا يتزيأ بجلباب عربي وعقال وغترة يصنع دول من العدم قائمة علي اساس عرقي وطائفي تحكم بواسطة عملاء يسيل لعابهم للدرهم والريال ينفذون في سبيل سيطرتهم علي السلطة كل الموبقات في ظل انعدام الوازع الاخلاقي والانهيار القيمي في ظل السباق نحو كرسي السلطة.

السؤال المحوري ماذا سيحدث لو تمزق الشرق الاوسط الي دول عرقية ؟

هذا السؤال اجابته من ناحية امنية نجد ان انهيار الجيوش النظامية واستبدالها بالملشيات والمرتزقة يقود الي عصور مظلمة يسود فيها قانون الغاب يكون فيها المتحكم هو الاقوي عسكريا وسنجد المذابح والابادة الجماعية للتخلص من القوى الاخري لان غياب القانون والرادع يخلق مجموعة من امراء الحرب لهم علاقات بقوى اقليمية ينفذو اجندتها في سبيل تثبت اقدامهم بالداخل وهذا قد يجعل ان الاستعمار قد يعود مرة اخري من غير ان يخسر طلقة واحدة او جندي واحد يعود بكل نفوذه وينهب الثروات دون اي خسائر يمحو الهويات يريد ارض خالية من السكان .

اما اقتصاديا نجد ان النفط والذهب هما وقود الحروب في الشرق الاوسط فصعود الملشيا والمرتزقة ووضع يدهم علي حقول النفط ومناجم الذهب واستخدامها لتمويل صراعاتهم يؤدي الي افقار الشعوب وانهيار المنظومة الخدمية والتعليم والصحة وتفشي الجهل والامراض وبالتالي الاوبئة والمجاعات وهذا ما قد يحدث مستقبلا .مشروع الفوضي الخلاقة كيف كان الربيع العربي معولا لهدم الدولة الوطنية.

مع نهايات العام ٢٠١٠م وبداية ٢٠١١م من تونس عندما أحرق البوعزيزي نفسه احتجاجا علي التضييق عليه كانت الشرارة التي خطط لها لاحراق الشرق الأوسط بنيرانها شعوب اثقلها الفقر تنتفض عروش تتهاوى والانتهازيون ولصوص الثورات يقتنصون الفرص لكن هذه الثورات اظهرت ان دولة المؤسسات هي الاقوى والاكثر تماسكا كما حدث في مصر وتونس تمت ازاحه الطاغية بصورة سلسلة ولم تتعرض الدولة للانهيار لقوة المؤسسة العسكرية وتماسكها .لكن الثورات في دول اخري اتخذت منحني خطير جدا تحولت من السلمية الي العسكرية وفتحت مخازن السلاح الغربية للثوار وحلق طيران حلف الناتو لحمايتهم وشكل لهم غطاء جوي للتقدم وتدفق التمويل اللامحدود من امبرياليات العقال والدول والوظيفية فكانت ضربة البداية لتنفيذ مشروع الفوضي الخلاقة وتفتيت الشرق الاوسط علي اسس عرقية وطائفية لو نظرت اليوم الي الخارطة السياسية للدول التي مرت بها ثورات الربيع العربي تجد ان التقسيم قد اصبح واقعا وينتظر الحصول علي اعتراف دولي فقط فليبيا منقسمة الي شرق وغرب بتوافق دولي اما اليمن فالجنوب فعليا قد انسلخ من الشمال ويحضر للانفصال اما سوريا فالحرب الطائفية علي اشدها والنظام الجديد اسد علي الاقليات وحمامة وديعة امام الاختراقات وتمدد الاحتلال الاسرائيلي تحت ستار حماية الدروز . والاكراد علي مقربة من اعلان دولتهم في شمال سوريا تحت الحماية الامريكية .

خاتمة:

إن تتبّع مسار التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط يكشف عن نمط مقلق يعيد إلى الأذهان تجربة “ملوك الطوائف” في التاريخ الإسلامي، حين سقطت الدولة الجامعة أمام صعود الكيانات المحلية المتنازعة. اليوم، وفي ظل تصاعد النزاعات الطائفية والعرقية، وتفكك الهويات الوطنية، وازدياد التدخلات الإقليمية والدولية، يبدو أن المنطقة تتجه نحو نموذج سياسي جديد يقوم على الولاءات الفئوية لا المواطنة، وعلى الكيانات المجزأة لا الدولة الجامعة.هذا الواقع لا ينبئ فقط بمزيد من عدم الاستقرار والصراع، بل يهدد فكرة الدولة الحديثة ذاتها، ويُعيد تشكيل الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالح القوى الكبرى على حساب إرادة الشعوب. إن مواجهة هذا المسار لا تقتصر على الحلول الأمنية، بل تتطلب مشروعًا إقليميًا يقوم على إعادة بناء العقد الاجتماعي، وترسيخ المواطنة، والاعتراف بالتعدد ضمن دولة مدنية قوية، قادرة على احتواء الاختلاف لا تفجيره.

محمد سيد أحمد محمد-السودان