السياسة الجعجعية
محمد حسن علي زعيتر
يقدّم سمير جعجع نفسه منذ سنوات بوصفه أحد أبرز دعاة السيادة في لبنان، وبأنّ مشروعه السياسي قائم على مواجهة السلاح غير الشرعي وبناء دولة المؤسسات وإعطاء القانون دوره. غير أنّ متابعة مسار السياسة اللبنانية تكشف أنّ خطاب جعجع، بقي محصوراً في دائرة الكلام أكثر من تحوّله إلى مشروع قابل للتطبيق الفعلي، وهذا التناقض دائماً بين الوعود والواقع جعل المواطن يفقد الثقة بالخطاب السياسي الرنّان الذي يدلي به على مسامع مناصريه مما أدى إلى إحباط عام وشعور بالعجز في تقديم برامجه السياسية وتحويلها إلى أفعال.
لا بدّ أولاً من التطرق إلى واقع المواطن اللبناني الذي يواجه منذ سنوات مشكلة وجود خطابات سياسية متكرّرة والتي تعتمد على وعود وشعارات من دون أن تقترن بخطط عملية وإصلاحية، ويبدو هذا التناقض واضحاً في التصريحات التي تتعهّد بمكافحة الفساد والخطط الاقتصادية والإنمائية وتحسين الخدمات العامة. وإن هذه الفجوة بين الخطابات والنتائج لها أسباب متعددة مثل بنية النظام السياسي (الذي يتجاهله جعجع)، غياب المتابعة والمحاسبة والرقابة، والأهمّ عدم وجود رؤية واضحة لبناء الدولة.
هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة نقدية تُظهر التناقضات بين الخطاب السياسي المقدّم وتحويله الى واقع، بالإضافة إلى مقاربة نقدية بين الشعارات ذات الرمزية الوطنية والنتائج التي يرمي إليها.
*أولاً: مشكلة الخطاب الواحد
حيث يركّز جعجع بشكل أساسي على مسألة سلاح حزب الله باعتبارها المدخل الوحيد لبناء الدولة. ورغم أنّ هذا الملف يُعدّ محورياً في الحياة السياسية اللبنانية، إلا أنّ الإصرار على جعله العنوان الأوحد يُقلّص من قدرة “القوات اللبنانية” على تقديم رؤية شاملة لمعالجة قضايا الاقتصاد، الفساد، الإصلاح الإداري، والعدالة الاجتماعية.
هذا التركيز المفرط يجعل خطاب جعجع يبدو أحياناً أحادي البُعد وغير قادر على استيعاب السياسات المركّبة التي تحتاجها البلاد. فيظهر بذلك مشكلة الخطاب الواحد رغم التعددية الموجودة.
*ثانياً: بين الثبات المبدئي والانعزال السياسي
إن مواقف جعجع الثابتة هي بنظره مصدر قوة ولكن في الواقع جعلته في صومعة العزلة السياسية، فهو دائماً في موقع المعارض ولم يكن في موقع إيجاد الحلول رغم التسويات والتحالفات المرنة في هذا البلد.
وقد برز هذا في ملفات تشكيل الحكومات، الانتخابات الرئاسية، وتحديد أولويات الدولة، حيث يظهر حزب القوات في موقع الرفض أكثر من القدرة على الدفع نحو حلول عملية.
*ثالثاً: تناقض بين الخطاب والإمكانات
يرفع جعجع سقف شعاراته عالياً ـ خصوصاً في ما يتعلق بملف السلاح ـ لكن من دون تقديم آليات واقعية لتحقيق هذه الأهداف، مع رفض كلّ الحلول التي تقدّم من قبل الطرف الآخر والتي هي منطقية ومتوقعة التطبيق. وفي الواقع اللبناني المعقّد، لا يمكن لأيّ فريق سياسي منفرد أن يفرض تغييراً جذرياً في ميزان القوى. هذا ما يجعل خطاب جعجع يبدو طموحاً نظرياً لكنه لا يستند إلى خطة سياسية قابلة للتطبيق ضمن توازنات لبنان الداخلية والإقليمية.
*رابعاً: ضعف في إيجاد بدائل اقتصادية واصلاحية
شغل جعجع الشاغل الإكثار من الحديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد، فإنّ حزبه لم يقدّم مشروعاً اقتصادياً ـ اجتماعياً متكاملاً يواجه الأزمة اللبنانية الراهنة. وغالباً ما يكتفي الخطاب القواتي بانتقاد أداء الآخرين بدل تقديم برامج قابلة للقياس والتنفيذ .هذا الفراغ البرنامجي يجعل القوات تبدو أحياناً كمعارضة صاخبة لكنها غير قادرة على إنتاج سياسة بديلة.
خامساً: علاقته مع الخارج والانصياع لهم
يتباهى جعجع بعلاقاته الوثيقة بعدد من الدول الغربية والعربية، ويعتبر ذلك عنصر دعم لمشروعه السياسي. ولكن هذا الاعتماد المفرط على المظلة الخارجية يضعف دوره الداخلي ويجعله يبدو كطرف يستند إلى الخارج أكثر مما يستند إلى توافقات داخلية. وفي بلد كلبنان، تُعدّ القدرة على نسج شبكة علاقات داخلية واسعة شرطاً أساسياً لأيّ مشروع سياسي ناجح.
خلاصة القول… إنّ سياسة سمير جعجع سياسة تنظيرية بامتياز وتعاني من إشكالية التطبيق، فالقوة الخطابية وحدها لا تكفي لبناء مشروع وطني ناجح، واعتماد في خطاباته مقاربة أحادية أو شعار واحد لا يوصل إلى الهدف المرجو في بناء دولة (رغم أنه غير مهتمّ لذلك).
فرحم الله القائل: كلها جعجعة بلا طحين…
