لبنان في مرمى السعودية… والسيادة ليست للبيع
ريما فارس
في السياسة، ليست الدول شريرة بطبيعتها، لكنّ بعض السياسات تتحوّل إلى شرّ حقيقي حين تصبح مصدراً للأذى، وحين تُبنى على التدخل والتلاعب بمصائر الشعوب. والسعودية، في سلوكها الإقليمي خلال السنوات الأخيرة، قدّمت نموذجاً صارخاً لهذا الدور؛ فهي لا تتحرّك كدولة تبحث عن استقرار المنطقة، بل كقوّة تفرض إرادتها عبر المال والنفوذ والضغط، ولو على حساب الناس وأمنهم ولقمة عيشهم.
لا يحتاج اللبناني إلى كثير من التأمّل ليرى أثر هذا الدور. فالمملكة التي كانت يوماً ما تدّعي الوقوف إلى جانب لبنان، تحوّلت تدريجياً إلى لاعب يستخدم لبنان ساحة ضغط، تارة عبر وقف المساعدات، وطوراً عبر حصار غير معلن طال الاقتصاد والمغتربين والعلاقات الدبلوماسية. لم يكن الهدف دعم دولة قوية، بل إخضاع المشهد السياسي للمعايير السعودية الجديدة التي تُعامل المنطقة كرقعة نفوذ، لا كمنظومة حقوق وسيادة.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الدور الذي يحاول لبنان لعبه اليوم مع السعودية، وهو دور دقيق يراوح بين الحاجة إلى استعادة العلاقات الاقتصادية وبين محاولة الحفاظ على ما تبقّى من قرار سيادي. لبنان يحاول أن يظهر بصورة الدولة التي تريد فتح الأبواب دون الخضوع، التي تبحث عن شراكات دون الوقوع في فخّ الارتهان. وفي هذا السياق، تتحرك الدبلوماسية اللبنانية بحذر شديد، مدركة أنّ أيّ انفتاح مع الرياض يجب أن يبقى مضبوطاً بمعادلات داخلية حساسة، خصوصاً أنّ السعودية تسعى لفرض شروط غير معلنة تتجاوز الاقتصاد إلى التأثير في خيارات الدولة. ومن هنا، فإنّ الدور اللبناني اليوم ليس دور التابع، بل دور من يحاول المناورة في مساحة ضيقة بين الحاجة إلى الدعم وضرورة عدم خسارة توازنات الداخل.
والأخطر أنّ النهج السعودي لا يُمارَس تجاه لبنان فقط، بل تجاه دول عدّة في المنطقة، حيث تتقدّم المملكة تحت شعار “الإصلاح والانفتاح”، بينما تمارس خلف الستار دوراً يقوّض استقراراً هنا ويُشعل نزاعاً هناك. تدعم طرفاً، تحاصر آخر، وتستخدم الأموال كأداة تطويع لا كجسر تعاون. وبين الصورة التي تُسوّقها المملكة في الإعلام وصورة أفعالها على الأرض، يقف المواطن العربي بين وهم الواجهة وحقيقة السلطة.
لبنان، في قلب هذا المشهد، ليس بحاجة إلى مزيد من الوصاية ولا إلى مزيد من الإملاءات. وهو بالتأكيد ليس ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. كل ما يحتاجه هو دولة تملك قرارها، وشعب يعرف أنّ كرامته لا تُشترى، وأن أي يد تمتدّ لتتحكم بمصيره ـ مهما حملت من شعارات ـ لا تختلف عن أيّ يد تعيد إنتاج الظلم بثوبٍ آخر.
السعودية اليوم ليست في موقع تُحاسِب فيه الآخرين على خياراتهم، بل في موقع يجب أن تُحاسَب فيه على سياساتها التي ساهمت في خلق التوتر بدل حلّه، وفي إضعاف الدول بدل تمكينها، وفي تحويل المنطقة إلى مجال اختبار لسطوتها السياسية. والسؤال يبقى:
هل تستمرّ المملكة في لعب دور القوة التي لا ترى إلا مصالحها، أم تدرك أخيراً أنّ الشعوب لا تُسيّر بالإملاءات ولا تُخضع بالترهيب، وأنّ الزمن الذي كانت تتحكّم فيه بالمعادلات قد تغيّر، وربما إلى غير رجعة…!
