الدولة تائهة فاقدة البوصلة
ناصر قنديل
…
يقول رئيس الجمهورية تعقيباً على الاعتداءات الإسرائيلية غير المسبوقة جنوباً، “إن ما قامت به إسرائيل اليوم في جنوب لبنان يُعدّ جريمة مكتملة الأركان، ليس فقط وفقاً لأحكام القانون الدولي الإنساني الذي يجرّم استهداف المدنيين وترويعهم وإجبارهم على النزوح من ديارهم، بل يُعدّ كذلك جريمة سياسية نكراء، فكلما عبر لبنان عن انفتاحه على نهج التفاوض السلمي لحل القضايا العالقة مع “إسرائيل” أمعنت في عدوانها على السيادة اللبنانية وتباهت باستهانتها بقرار مجلس الأمن رقم 1701 وتمادت في خرقها لالتزاماتها بمقتضى تفاهم وقف الأعمال العدائيّة، وقد مر قرابة العام منذ دخل وقف إطلاق النار حيز النفاذ وخلال تلك الفترة لم تدّخر “إسرائيل” جهداً لإظهار رفضها لأي تسوية تفاوضية بين البلدين، وصلت رسالتكم”.
وينقل وزير الإعلام عن رئيس الجمهورية كلاماً خلال انعقاد مجلس الوزراء بينما الاعتداءات الإسرائيلية في ذروتها، “أن الرئيس جوزاف عون أوضح فكرة التفاوض التي طرحها، مشيراً إلى أنها ترتكز إلى “قناعتنا بضرورة إعادة الهدوء والاستقرار إلى الجنوب واستكمال انتشار الجيش حتى الحدود الجنوبية المعترف بها دولياً، إضافة إلى أن خيار الحرب تحت أي مُسمّى كان، لم يؤد إلى نتيجة ولم يعد في قدرة اللبنانيين احتمال المزيد من المعاناة والقهر والعذاب”. ولفت إلى أن هذا الخيار لقي تأييداً وطنياً واسعاً ودعماً من المجتمع الدولي الذي يحتاج لبنان إلى آلية لتفعيل عملية النهوض الاقتصادي، وإعادة الإعمار من خلال المؤتمرات التي يتم تحضيرها، وإلى أنه يبذل كل ما في وسعه لإنقاذ لبنان وحماية شعبه “وتجنيبه المزيد من المخاطر والدمار والقتل والتهجير”. أضاف: “على هذا أقسمت اليمين يوم انتخبتُ رئيساً للجمهورية، وأنا ملتزم بقسمي”.
هذان النصان صادران بالأصالة والوكالة عن رئيس الجمهورية خلال يوم واحد بفاصل ساعات قليلة، وتعليقاً على ثنائية التفاوض والعدوان المستمر على لبنان ذاتها، وهما يتناقضان إلى حد استحالة الجمع بينهما، واحد يقول إن لا جدوى من السعي للتفاوض مع الاحتلال الذي يفعل ما بوسعه لنسف كل أمل بالرهان على الدبلوماسية، والثاني يقول إن لا حل إلا بالتفاوض وإن التفاوض هو الخيار الوحيد لاستعادة الأرض المحتلة ووقف الاعتداءات، واحد مكرّس للرد على الاعتداءات بنص يتقاطع مع الرسالة التي وجّهها حزب الله للرؤساء حول لا جدوى التفاوض، والثاني مكرّس للرد على رسالة حزب الله يمتدح التفاوض الى حدّ اعتباره خياراً وطنياً وحيداً، فعلى أي من النصين يجب أن يسير اللبنانيون، وإذا كان رئيس الجمهورية صاحب التصريح بالأصالة عن نفسه الذي يسقط خيار التفاوض، وجب سحب التصريح بالوكالة عنه والمنسوب لكلام الرئيس أمام مجلس الوزراء.
في الجلسة الحكوميّة عينها، قال قائد الجيش كلاماً صريحاً وواقعياً تناقله الوزراء وصار بين أيدي الإعلاميين، وجوهره هو استحالة مواصلة الجيش لمهام حصر السلاح جنوب الليطاني في ظل توسّع دائرة الاعتداءات الإسرائيلية على طريقة أول أمس وأمس وما يمكن أن يحصل اليوم وغداً بصورة أكثر اتساعاً وضراوة، خصوصاً أن كثيراً من الاعتداءات تبعد أمتاراً قليلة عن مواقع الجيش اللبناني، وهي أقرب لتكون رسائل للجيش، وأن هذا كله يجعل الالتزام بمهل لإنجاز مهمة حصر السلاح غير واقعيّ، قائلاً ربما يكون من الأفضل تعليق مهل المهمة حتى يتغيّر الوضع ويصبح ممكناً العمل في ظروف طبيعية، وجاء رد وزير الإعلام عن سؤال حول الموضوع تأكيداً في معرض النفي، حيث قال، “لم يرد أي اقتراح منه، فالاقتراح يكون معللاً وواضحاً في مساره وإطاره الزمني والجغرافي، وهو أمر لم يُعرَض على الوزراء على هذا النحو. لذلك، لم يتخذ المجلس قراراً بهذا الشأن لأنه لم يتمّ عرضه عليه وفق ما ذكرته وبالصيغة التي أشرت إليها”.
في الحصيلة الدولة تائهة في الموقف من التفاوض بين اعتباره سراباً في ظل اعتداءات تسقط كل أمل بالدبلوماسية وبين اعتباره خياراً وطنياً وحيداً، وعاجزة عن مواكبة حاجات جيشها بتحمل مسؤولية تعليق مهلة حصر السلاح جنوب الليطاني، خشية الغضب الأميركي، فتقول إن قائد الجيش لم يُقدّم اقتراحه “معللاً واضحاً في مساره وإطاره الزمني والجغرافي”، واللبنانيون عموماً، والجنوبيون خصوصاً، مع حكومتهم عالقون بين قناعتهم بأنها خيار وطنيّ وحيد، وبين أنّها سراب يصعب بلوغه وأنها تقتل بسلوكها كل أمل لديهم بالرهان على الدولة، والجيش عالق بين اعتداءات تهدّد وجوده وتستهدفه ونداء الواجب يستدعيه للتصدّي لها دفاعاً عن أرضه وشعبه، وبين حكومة لا ترى فيه إلا جدولاً زمنياً لنزع سلاح المقاومة وتقديم الفاتورة للأميركي أملاً بكسب رضاه ونيل علامة جيد على الامتحان.
