‏متى يحقّ لك أن تنتقد المقاومة وقادتها، وأن تُعطي رأيك بقراراتها وسلوكها؟
لنفترض أنّنا منفتحون جدًّا على فكرة الديمقراطية، ولنجب على الأسئلة التالية: من هو المنتقِد؟ وماذا فعل؟ وماذا قدّم للقضية؟ وماذا تحمّل في سبيلها؟
بماذا ضحّى؟ وهل سكن الأنفاق؟
هل حارب الجوع؟ هل تعرّض للتخوين وتشويه السُّمعة؟
هل قدّم عمراً ممنوعاً من أيّ نوعٍ من أنواع الرفاهية في سبيل حقّ؟

إنّ “المثقفين” في هذه الأمة ليسوا كما يبدو تحت تسميةٍ واحدة (مثقّف)، بل هم في الحقيقة نوعان:
الأوّل مثقّف فعلاً قرّر أن يعلم ويتعلّم فيتغيّر ويُغيّر ويؤثّر في المجتمع،
والآخر كان “مُستثقَفاً” فغدا أداةً تخدم مشروعاً خطيراً بغبائه الأخطر، ووهمٍ عاشه بأنّه يعلم ويدرك، وهو لا يتعدّى كونه موظّفاً.

الأوّل يُشكّل وعياً ويُحدث فرقاً، والأمثلة كثيرة، لعلّ أبرزها غسّان كنفاني، نزار بنات وغيرهما.
أمّا الثاني فكان ببغاءً يكرّر ما يسمعه من هنا أو هناك، وقد أسعفه الحظّ في أن يكون تحت الأضواء.

هذا المشهد الذي أحاول الإضاءة عليه هو معركةً حقيقيةً من نوعٍ آخر، لا تقلّ أهميّةً عن معركة الميدان، فهي معركةُ غزوٍ فكريٍّ تحتاج إلى كمٍّ هائلٍ من الوعي.
كن صانعاً لهذا الوعي، لا مصنوعاً له.

ما حصل على مرّ التاريخ كان إشاراتٍ بسُلَّمٍ تدريجياً تُنذر وتُحذّر لنفهم المشهد بعمقٍ، ونغوص في تفاصيله، حتى وصلنا إلى الطوفان؛ وكان هو نقطةً تحوّلاً فاصلةً والامتحان الأكبر الذي كشف الجميع، وأزال الغبار عن لوحةٍ رسمها شيطان الاستعمار.
فكما قال الشهيد السنوار: هذه المدينة (غزّة) ستفضح الجميع، وفعلت؛ فضحت وعرّت وأعادت الاصطفافات، ولأنّ أهل الحقّ قلّة، كما قال صديقٌ لي، لا يزال هناك متّسعاً للخيانات.
وكما ردّد سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله: إنّ النصر لا يُعطى لخليطٍ.

سورية كانت أيضاً نقطةً فاصلةً وجزءاً من الامتحان، فقلعة العروبة اقتحمها برابرةُ العصر، وهناك من يراها “ثورة”!

الامتحان صعبٌ جداً، ولكن الصورة في أوضح حالاتها على الإطلاق، خاليةٌ من أيّ شوائب.
وهنا سأعود إلى الانتقادات: بعضُ الانتقادات كفراً، ليس لأنّ ما نتحدّث عنه يرتقي إلى مرتبة الإله (معاذ الله)، ولكن هل من المنطق أن يجلس أحدهم خلف شاشته الصغيرة، سواء عبر هاتفٍ أو كمبيوتر، وينظّر على ابن الأنفاق الذي قضى ليالي وأياماً يحفر فيها ليضع شعلةَ الحرية في آخرها؟
أو هل يحقّ لمن يقضي يومه في متابعة المسلسلات والأفلام وآخر صيحات الموضة أن ينظّر على من يسكن في دائرة الحصار جائعاً، ويتعرّض للمضايقات، وله أسرى في السجون أو شهداء بعضهم دُفن وبعضهم مفقود الأثر؟ ما هذه الوقاحة!
وأين الحياء في هذا؟ فعلاً، “إن لم تستحِ فافعل ما شئت”.

المبادئ ثابتةٌ، لا تتغيّر بتغيّر الظروف، ولا تختفي باستشهاد القائد، ولو كان كذلك لانتهى الدين بعد محمدٍ صلى الله عليه وآله، ولانطفأت ثورةُ كربلاء بعد الحسين، ولانتهت كثيرٌ من الأفكار العظيمة التي بثّها عظماء ولكنّهم غابوا.
الإنسان الصلب هو من تمسّك بمبادئه رغم خذلان الكثرة، والإنسان الثابت هو من كان راسخاً على موقفه ولو بدا وحيداً.

عندما صُلِب المسيح عند البعض كان وحيداً، لكنه هل تراجع؟ تخلى؟ قطعاً لا.
وعندما واجه موسى (ع) أكبرَ طواغيت الأرض، كان معه قلّةٌ قليلة، ولم يتّكل إلا على ربّه فشقّ البحر وعبر.
وعندما غاب محمدٌ (ص) كان هناك من ثبت وأكمل، وهناك من سقط وارتدّ.
وعندما وقف الحسين (ع) وحيداً كان يُمثّل أعظم صور الثبات في هذه الدنيا.

والأمثلة تطول، ولعلّ البعض سيقول إنّها أمثلةٌ دينية، ولكن لا؛ هناك أمثلةٌ لقادةٍ عظامٍ وقفوا في ساحات الإعدام ولم يتراجعوا خطوةً عن مواقفهم.

ولأنّ القابض على دينه كالقابض على جمرةٍ، فأنا أعتبر أنّ مفهوم الدين هو ما تؤمن به،
ولأنّنا آمنّا بالمقاومة ولأنّها حقّنا المطلق، نعم، نحن القابضون على الجمر ولن نتخلّى، فبعض الأمور لا تحتمل النقاش.
نحن أبناء هذه الأرض، فهل سمعتَ عن ولدٍ يناقش انتسابه إلى رحم أمه؟
أو عن عفيفةٍ تُناقَش في شرفها؟
أو عن رجلٍ يُناقَش في عرضه؟

لهذه الدرجة قضيتُنا مقدّسةً، ولهذه الدرجة نحن مؤمنون بها.
ومن لم يتمتّع بهذه الصلابة فليُراجعْ نفسه.

إنها طريقٌ شاقّةً، ليست سهلةً ولا مرفّهةً، ولكننا أهلُها،
فلا يُكلّف الله نفساً إلا وسعها.
سنعبر وسنصل، لأنّ الهدف هو سبب وجودنا على هذه الأرض، وما نحن فيه زائل،
والعلوّ هناك في السماء، تلك هي الحياة الحقيقية التي لن تُزهق فيها الأرواح ظلماً أو جَوراً.

نحن الخالدون في الجنان، نحن الثابتون،
وكلّ المرتجفين والمرتزقة والحاقدين والمحتلّين والمعتدين والظالمين خالدون في قعر جهنّم،
هذا وعدٌ في كلّ الديانات، وحتى في القانون الطبيعيّ للحياة،
فلعنةُ الكارما لن ترحم،
وكلّ إنسانٍ سيحصد ما زرع ولو كان مثقالَ ذرّةٍ.

فكّر في كلّ هذه الصورة وكلّ هذه المشهدية قبل أن تنتقد من يرفعون لواء الطهر،
ويقدّمون في سبيله دمًا لا حجرًا، دماءً مقدّسةً وأرواحًا حُمِلت على الأكفّ ومضَوا بها إلى سبيل الله،
ابتغاءً لمرضاته، وإحياءً لكرامة أمّةٍ، وإعلاءً لكلمةِ حقٍّ.

فاتنة علي_لبنان