الإعلام لا يكتفي بنقل صور العالم؛ إنه يصنعها. هناك من يقدّم الحقائق ويحقق، وهناك من يُوجّه السرد، يموّه، يستثمر حدثًا واحدًا ويرقّصه ليصبح رمزًا، ويطفئ آلافَ وقائعٍ يومية لا تخدم هذا الهدف. هذا المقال يحلل خطوة بخطوة كيف تُصنع الأكذوبة الإعلامية وتُروّج، وكيف يتم نفيها أو تشويهها لاحقًا، مقابل الصمت أو التقزيم المتعمد لفضائح “طالسجون “الإسرائيلية” — الفجائع الحقيقية التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون واللبنانيون يوميًا.


1) صناعة الأكذوبة: من الفكرة إلى الرمز

صناعة أكذوبة إعلامية ناجحة تمر عبر مراحل متكررة:

  1. اختيار مادة قابلة للرمزية: حدث أو صورة أو شهادة يمكن تحويلها إلى “قصة كبرى” تحمل رسائل سياسية بسيطة يسهل تداولها.
  2. إنتاج بصري/سردي مقوّي: صور معدّلة أو فيديوهات مركّبة، أو “محاكاة تكنولوجية” لإعادة بناء مشاهد، وتقنيات سرد تجعل المشاهد يشعر بأنه يرى الحقيقة المطلقة.
  3. تأطير تحليلي موحّد: تقارير تحليلية مكرَّرة من مؤسساتٍ بارزة أو صحفيين مُعتمدين تُعطي السردية صفة الموضوعية.
  4. دعم سياسي/مؤسسي: تمويل، تضامن حزبي أو دولي، أو مواقف رسمية تُعطي السردية دفعًا وتساعد على تبنّيها كـ”حقيقة” أمام الجمهور الدولي.
  5. تثبيت العلامة الرمزية: يتم استثمار السرد في حملات ضغط أو جلسات برلمانية أو بيانات منظمات تجعل من الحدث رمزًا يُستدعى مرارًا.

هذه العملية ليست صدفة؛ هي استثمار: حدثٌ يُسوَّق ليخدم غرضًا، وليكون لواءً في معارك سياسية أو جيوستراتيجية.


2) بثّ الأكذوبة وتعميمها — أدوات وتكتيكات

المرئيات أولًا: صورة مركزة أو فيلم توثيقي أو “محاكاة” تترك أثرًا تفوق النصوص. المرئي يخلق استجابة عاطفية أسرع من أي تقرير.

تكرار السرد: نفس اللغة والصور والتعابير تتكرر عبر وسائل متعددة فتبدو وكأنها تحقيق مستقلّاتٍ متعددة، بينما هي في الواقع إعادة تدوير للسرد نفسه.

شرعنة بإسناد: الاستشهاد بتقارير مؤسساتٍ أو شهودٍ — حتى لو كانت طريقة عرض الأدلة مُجهَّزة أو مطوّعة — يمنح السردية ظهورًا “موضوعيًا”.

التأطير السياسي: ربط السرد بأجندة واضحة — إسقاط نظام، تشويه مشروع، أو إعادة تبرير سياسات دولية — يضمن تدافعًا سياسيًا يكرّس القصة.

حين تجتمع هذه الأدوات تصبح أي قصة قابلة لأن تتحول بسرعة من خبر إلى “رمز” إعلامي.

مثال (سجن صيدنايا)
الذي برزت حقيقته لاحقاً بشهادة مدير السجن الحالي ونفيه وجود طوابق تحت الارض كما صور سابقاً داعياً الكاميرات للتصوير .
3) لماذا تُختَصر فظائع السجون الواقعية ولا تتحول إلى رموز؟ (آليات التغاضي)

في مقابل هذا الاستثمار الرمزي هناك أمور واضحة تدفع إلى إخفاء أو تهميش جرائم السجون الإسرائيلية:

تحالفات ومصالح دولية: قوى وسياسات تجعل من الحديث المتواصل عن فظائع جهة معينة أمراً غير مرغوب به.

غياب مرئيات «مصدّقة» ومطلوبة: رغم وجود شهادات وصور، إن لم تملك مادة بصريّة قوية أو رواية سهلة الترويج، يبقى الملف في إطار التقارير الحقوقية البطيئة.

تعبُ وسائل الإعلام نفسها: انقسام في أولويات التغطية، جذور المؤسسة الإعلامية، وتمويلها، كل ذلك يحدد ما الذي يُضخّ في الواجهة.

إرهاق المستهلك: الجمهور المتعب سيختار قصصًا مختصرة ورموزًا قوية بدل ملفات مطوّلة وموجعة يصعب استهلاكها.

نتيجة ذلك: آلاف الضحايا اليومية تبقى في قوائم التقارير الحقوقية، بينما الأكذوبة الرمزية تحصد التأييد اللانهائي.

5) الواقع المر: سجون الاحتلال كـ«مسالخ بشرية» — شهادات وتقارير موثَّقة

التوثيق الحقوقي المتكرر يُظهر نمطًا ثابتًا من الانتهاكات: التعذيب، الإهمال الطبي المتعمَّد، الحبس الانفرادي المطوّل، الاعتقال الإداري بلا محاكمة، نزع الكرامة، ومنع الزيارات. منظمات مستقلة وتقارير أممية توثّق ذلك وتدعو للتحقيقات. أمثلة توضيحية من تقارير حقوقية وصحفية حديثة: حالات ممن وثّقها B’Tselem وHuman Rights Watch ومنظمات فلسطينية وأممية تتحدث عن سياسات وإهمال وممارسات تُرقى إلى التعذيب والمنع المنهجي للمساعدة الطبية.

في الربيع والصيف الأخيرَين ازدادت الشهادات والتقارير—خاصة بعد عمليات الإفراج الجزئي أو تبادل الأسرى—التي سردت تفاصيل تعذيب وإهمال طبّي وعودة جثث بعلامات تعذيب تُشير إلى سياسات منسجمة داخل بيئات الاحتجاز. (تقارير صحفية عالمية نقلت شهادات وأدلّة عن حالات وفاة وإصابات وعيوب في المعاملة).


6) أمثلة إنسانية: إسراء جعابيص، حسام أبو صفيه، وليد دقة — قصصٌ تُذكّر بالحقيقة

أذكر هنا أمثلة واقعية كأسماء يجب أن تبقى في الخطاب عندما نتحدّث عن سجونٍ تعذّب الناس يوميًا:

إسراء جعابيص — قصتها معروفة كحالة معقدة: أصيبت بحروق بالغة في حادثة عام 2015 وحوكمت لاحقًا؛ قصتها استخدمت سياسياً في سياقات عدّة، وخرجت في سنوات لاحقة تقارير تتناول ظروف احتجازها وإصابتها والجدل حول ظروف الحادثة والحكم. تغطية صحفية متواصلة تناولت معاناتها أثناء الحبس وبعده.

حسام أبو صفيه — طبيب واسم بارز ذُكر في تقارير متكررة حول تعرضه لسوء معاملة واحتجاز قاسٍ؛ محاموه وحركات حقوقية وثّقوا تدهور حالته الصحية وحالات تعنيف أثناء الحجز، وظهر اسمه في تقارير إخبارية عام 2025 كقضية إنسانية تحتاج ضغطًا دوليًا.

وليد دقّة حالة سجين فلسطيني اعتُبِر من بين الأطول خدمةً في سجون إسرائيل؛ تُشير سجلات عدة إلى خصائص حالة اعتقال طويلة الأمد وتأثيرها الصحي، ووفاته لاحقًا أثارت سجالاً بين مؤسسات حقوقية وإعلام.

هذه الأمثلة ليست مجرد أسماء: هي علامات على واقع يوميّ ومستمرّ يتجاهله الكثير من السرد الإعلامي الواسع، بينما يستخدم هذا الأخير أمثلة أخرى ليصنع رموزه.

العدسة التي نريدها

النتيجة العملية واضحة: إما أن نسمح للعدسات بأن تُسوّق الرموز المصمَّمة، أو أن نصنع عدسةً أخرى — عدسة تركز على البشر. سجنٌ يُصبح “أكذوبة وظيفية” هو أداة؛ وسجونٌ تُمارس التعذيب يوميًا هي حقيقة إنسانية. لا مقارنة هنا _ بل كشف لآلية استثمار الإعلام السياسي على حساب آلام الأسرى والمعتقلين. مهمتنا، كقراء وناشطين ووسائل إعلام حرة، أن نحوّل الاهتمام من الرموز المصنّعة إلى أصوات المحرومين، وأن نطالب بتحقيقات حقيقية ومساءلة فعلية.

فالنقش الأساس لقضيتنا هي المسرى والأسرى وهنا الميزان المتساوي بنفس الأهمية.

فاتنة علي-لبنان