الماكرونية النيوليبرالية انتهت إلى شلل سياسي وفراغ في السلطة ما قد يعبّد الطريق أمام صعود أقصى اليمين كبديل وحيد لإدارة المشهد الفرنسي
مثّلت استقالة سيباستيان ليكورنو، بعد أقل من أربعة أسابيع على تعيينه، لحظةً كاشفة لعمق الأزمة التي تعصف بالنظام السياسي للجمهورية الخامسة. فبسقوطه، أصبح الرجل ثالث رئيس وزراء لدى الرئيس إيمانويل ماكرون يطاح به في أقل من عام، مسجلاً بذلك أقصر ولاية لرئيس حكومة منذ 1958. أزمة تتجاوز الأسماء لتضرب في صميم بنية النظام نفسه العاجز عن إدارة التناقضات الطبقية المتفجرة في ثاني أكبر اقتصاد بمنطقة اليورو، ما أغرق البلاد في أسوأ مأزق سياسي-اجتماعي-اقتصادي تمر به منذ سبعة عقود.
انهارت الحكومة قبل أن تؤدي اليمين الدستورية، بعد 836 دقيقة فقط من إعلان تشكيلتها. سقوط لم يكن مفاجئاً، بعدما جاء ليكورنو، أحد المساعدين المقربين من الرئيس الفرنسي، واعداً بـ”قطيعة” مع الماضي، ليقدم حكومةً تمثل خلاصة الاستمرارية الماكرونيّة؛ إعادة تدوير لوجوه قديمة أغضبت الحلفاء قبل الخصوم. كان تعيين برونو لومير، وزير المالية لسبع سنوات والذي يُحمَّل مسؤولية ارتفاع الدين العام الفرنسي إلى 4 تريليونات دولار، بمثابة استفزاز صريح للجميع، وأدى إلى تهديد “الجمهوريين” – يمين الوسط – بالانسحاب، ليُسدَل الستار سريعاً على حكومة وُلِدَت ميتة.
خلف الدراما السياسية في قصر ماتينيون – المقر الرسمي ومكان العمل لرئيس وزراء فرنسا في الدائرة السابعة بباريس – يدور اشتباك أعمق وأكثر عنفاً: صراعٌ طبقيّ محض حول من يجب أن يتحمل تكلفة أزمة الرأسمالية الفرنسية المتفاقمة: دين عام يبلغ 115% من الناتج المحلي الإجمالي، وعجز في الميزانية يُتوقع أن يصل إلى 5.4% عام 2025 (قرابة ضعف سقف الاتحاد الأوروبي)، وتكاليف خدمة الدين مرشحة لتصل إلى 75 مليار يورو العام المقبل. هذه الأرقام تؤكد بكل تقييم حقيقة واضحة: أن النظام لا يمكنه الاستمرار في تأجيل الكارثة إلى الأبد، وإن ثمّة جهة ينبغي لها أن تتحمل تكلفة إصلاح الأوضاع القائمة.
لقد كان مشروع ماكرون، منذ وصوله إلى السلطة عام 2017 ممثلاً لمصالح رأس المال الفرنسي-المعولم، واضحاً: تفكيك ما تبقى من دولة الرفاه التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية، وتحميل كلفة “إصلاح” مزعوم للعمال والموظفين والطبقات الوسطى. وقد ظهر ذلك في تغيير نظام التقاعد، والتخفيضات الضريبية الهائلة للشركات، والآن، في محاولات فرض ميزانيات تقشفية قاسية. كانت مهمة ليكورنو، مثل سلفيه ميشال بارنييه وفرانسوا بايرو، هي تمرير ميزانية عام 2026 التي تلبي إملاءات رأس المال الفرنسي والمفوضية الأوروبية، عبر مزيج من زيادة الضرائب على الأكثرية وخفض الإنفاق الاجتماعي.
ليكورنو ألقى باللوم في خطاب استقالته على الأحزاب السياسية التي “تتصرف وكأن كلاً منها يمتلك الأغلبية”، لكنه كان يتجاهل أن البرلمان المنقسم الذي نتج عن انتخابات 2024 الكارثية هو انعكاس دقيق لانقسام المجتمع الفرنسي نفسه. لقد فقدت النخبة البرجوازية، التي يمثلها ماكرون، “هيمنتها” وقدرتها على الإقناع، وعندما حاولت فرض أجندتها بالقوة، وجدت أن أدواتها السياسية والدستورية قد تآكلت. لقد تعطلت آلة الجمهورية الخامسة التي صممها شارل ديغول لضمان سلطة تنفيذية مطلقة في خدمة مصالح الطبقة الحاكمة.
يتحمل إيمانويل ماكرون المسؤولية التاريخية المباشرة عن هذا المأزق. لقد نجحت سياساته في تدمير الحزبين التقليديين (الاشتراكي والجمهوري) اللذين أدارا الدولة الفرنسية بالوكالة عن البرجوازية لعقود، ليخلق “وسطاً” متطرفاً لا يمثل سوى مصالح رأس المال المالي والعولمة. لكن هذا “الوسط” انكشف على حقيقته: قشرة رقيقة تفتقر إلى أي قاعدة اجتماعية حقيقية. وعندما راهن بغطرسة على حل البرلمان في صيف 2024، ظناً منه أنه سيقضي على خصومه، كانت النتيجة عكسية تماماً، إذ أنتج برلماناً معلقاً بثلاث كتل متناحرة لا تملك أياً منها أغلبية تؤهلها للاستفراد بالحكم وتمرير السياسات: كتلة ماكرون الوسطية الضعيفة، وكتلة يسارية موحدة (الجبهة الشعبية الجديدة)، والتجمع الوطني – أقصى اليمين – صاحب أكبر عدد من المقاعد كحزب منفرد.
في هذا الانسداد السياسي، تتسابق القوى المتنافسة لتقديم نفسها كبديل أقدر من الوسط على إدارة الأزمة: من أقصى اليمين تلعب مارين لوبان – زعيمة التجمع التاريخية – وتلميذها جوردان بارديلا – رئيس الحزب – لعبة تكتيكية ببراعة. تصويتهما ضد ميزانيات التقشف هو استراتيجية لكسب الشرعية الشعبية للفرنسيين المتضررين، لكن بديلهم الاقتصادي يقتصر على تغيير ضحية التقشف: فبدلاً من خفض الإنفاق الاجتماعي – الذي يستفيد منه “الفرنسيون الأصليون”-، يقترحون تمويل العجز عبر خفض الإنفاق على المهاجرين والحد من “الاحتيال الاجتماعي”.
إنهم يعيدون توجيه الغضب الطبقي المشروع ضد النيوليبرالية نحو عدو متخيل (المهاجر) لحماية العدو الحقيقي (النظام الرأسمالي). وعندما يطالب بارديلا بحل البرلمان، فهو يطلب من الشعب تفويضاً لإدارة الدولة البرجوازية بيد من حديد، مقدماً نفسه لقطاعات رأس المال كـ”ضامن للاستقرار” في وجه الفوضى الماكرونية. أما على اليسار، فيمثل موقف الجبهة الشعبية الجديدة – تحالف الاشتراكي، والشيوعي والخضر وفرنسا العصيّة – دفاعاً طبقياً موضوعياً عن مصالح العمال والقطاع العام. لكن استراتيجيتها لا تزال محصورة في إطار تحسين النظام القائم لا نقضه، فتعرض إدارة الأزمة بشكل “أكثر إنسانية”، عبر زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى. لكن أي حكومة يسارية ستصطدم حتماً بنفس “الواقع” الذي تحدث عنه رؤساء وزراء ماكرون: ضغوط البنك المركزي الأوروبي، وقواعد العجز الصارمة للاتحاد الأوروبي، وابتزاز أسواق السندات التي ارتفعت تكاليف الاقتراض الفرنسي فيها بشكل ملحوظ بعد كل أزمة سياسية. دون قطيعة جذرية مع هذه البنى النيوليبرالية، ستضطر أي حكومة يسارية إلى تطبيق نسخة مخففة من التقشف، ما سيؤدي إلى خيانة قاعدتها وتعبيد الطريق في المحصلة لوصول أقصى اليمين إلى السلطة.
الرئيس ماكرون، مع استقالة ليكورنو، بات محاصراً، وأكثر عزلة، خياراته محدودة، وكلها سيئة: فإما أن يلجاً إلى تعيين رئيس وزراء رابع، وهذا سيكون مضيعة تامة للوقت: مجرد “حكومة زومبي” أخرى ستواجه نفس البرلمان المنقسم وذات الاستحالة في تمرير الميزانية، أو يحل البرلمان مجدداً – وهو الخيار الذي يطالب به التجمع الوطني، لأنه الأكثر ترجيحاً لمنحه أغلبية نسبية أو حتى مطلقة وفق استطلاعات الرأي – وستكون تلك مقامرة قد تضع أقصى اليمين في السلطة لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة. أو بالطبع الاستقالة من منصبه والتخلي عن الحكم فيما تبقى في ولايته الثانية وفق مطالب أقصى اليسار وبعض المحافظين الذين يعتبرون شخصه أصل الفوضى وأن رحيله هو السبيل الوحيد لكسر الجمود. لكن ماكرون استبعد هذا الخيار مراراً، والتشبث بالسلطة هو ديدن من يمثلهم.
في غضون ذلك، يترنح الاقتصاد الفرنسي. فالأسواق المالية قلقة، حيث انخفض مؤشر أسهم أكبر الشركات الفرنسية (كاك 40) بنسبة 1.4% بعد استقالة ليكورنو، وتراجعت أسهم البنوك الكبرى. فيما يجد المستثمرون الدوليون، بشكل مضطرد أن فرنسا تفقد جاذبيتها الاستثمارية في ظل تعمّق مناخ عدم اليقين هذا.
سقوط حكومة ليكورنو أكثر من مجرد حدث سياسي اعتيادي في إطار التنافس السياسي التقليدي للديمقراطيات الغربيّة، بل أحدث إشارة عن موت “الوسط” الذي حكم أوروبا بمجملها لعقود، والفراغ الذي تركه لن يملأه التكنوقراط مهما حاول ماكرون شراء الوقت بالهروب إلى الأمام، بل سيُحسم في الصراع المفتوح بين البديلين: إما حكم أقصى اليمين المتطرف، أو مواجهة طبقية مفتوحة في الشوارع والمصانع، والتي تبدو الآن الخيار الوحيد المتبقي أمام الطبقة العاملة الفرنسية للدفاع عن مكتسباتها التاريخية ومنع تفكيك عقدها الاجتماعي. لقد استنفذ النموذج النيوليبرالي الغربي قدرته على توفير الاستقرار، وثمة تغيير مستحق آت ستكون فرنسا أكبر مختبر له على البر الأوروبيّ.
سعيد محمد