معجزة غزة: كنعانية الملامح… فلسفية الروح… واقعية التحدي!
في اللحظة التي بدأ فيها تنفيذ المرحلة الأولى من خطة ترامب، كان المشهد في غزة مختلفًا عن كل خرائط السياسة وخطابات القوى الكبرى.
عشرات الآلاف من النازحين يعودون إلى أطلال بيوتهم المهدَّمة، حفاةً بين الركام، تتبعهم نظرات أطفال يبحثون في الرماد عن لعبة، أو كتابٍ مدرسي، أو حجرٍ يذكّرهم بالبيت.
تبدو العودة جنونًا في منطق القوة، لكنها في منطق الروح أسمى تجليات الوعي الفلسطيني بالانتماء والكرامة.
هؤلاء العائدون لا يثقون بأحد، لا بإسرائيل التي حطّمت كل العهود، ولا بترامب الذي يبيع الوهم باسم السلام، ولا بالغرب الذي أنشأ الولايات المتحدة، والذي يخبرهم تاريخه أن لا عهدَ له يُحترم.
فقد خرقت حكومات أمريكا 374 معاهدة مع الهنود الحمر بين عامي 1778 و1871، ثم أوقفت عقد المعاهدات تمامًا بعدما توقّفت المقاومة هناك. ومنذ ذلك الحين، صارت الأرض تُنتزع بالقانون الفيدرالي، وصارت الإبادة تُدار بالأوامر التنفيذية لا بالمدافع فقط.
ذلك هو جوهر المشروع الاستعماري العنصري الإحلالي: أن يُشرَّع السلب باسم الدين والقانون، وأن يُبرَّر القتل باسم
“الحداثة”.
وإسرائيل لم تبتكر جديدًا، فهي فقط وريثة هذا الوعي الاستعماري ذاته.
فلم تلتزم يومًا بميثاقٍ أو قرار، بل أعلنت مؤخرًا على لسان وزير ماليتها سموتريتش أن القانون الدولي والإنساني لا ينطبق على “شعب الله المختار”.
وبهذا الإيمان المزيّف بالتفوّق على الأغيار تبرّر كل شيء: الاحتلال، والاستيطان، والإبادة، والحصار.
ومع ذلك، يعود الفلسطيني إلى بيته المهدوم، لا بوهمٍ في تسوية، بل بوعيٍ مستنير بالمعرفة، وبقناعةٍ راسخة أن الكرامة لا تُستعار، والوطن لا يُستبدل.
لقد اقتلع المستعمر عام 1948 نحو 850 ألف فلسطيني من بيوتهم، لكن فلسطين لم تغادرهم قط.
في كل رحلة لجوءٍ كانت تسكنهم، وفي كل منفى كانت تنمو في قلوبهم.
وها هم اليوم خمسة عشر مليون فلسطيني، نصفهم في المنافي، و2.3 مليون لاجئٍ ونازحٍ في قطاع غزة وحده، وضعفهم في الضفة الغربية ومناطق 1948.
جميعهم في معركة بقاءٍ مفتوحة.
لكنّ الغزيين في صمودهم وتمسّكهم بالعودة إلى الأنقاض – أطفالًا ونساءً وشيوخًا – يكتبون فصلًا جديدًا في التاريخ الإنساني، فصلًا عنوانه أن البسطاء والفقراء وحدهم يملكون ما لا يملكه الأقوياء والأثرياء: الإيمان بالحياة، والثقة بأن الأعمار بيد خالق الكون وحده، “فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.”
هذه هي معجزة غزة.
ليست في الانتصار العسكري، ولا في صفقات السياسة، بل في تلك الإرادة الوجودية التي تتحدّى الموت لتؤكّد أن الإنسان هو من يبني البيوت ويصنع الأبواب والمفاتيح.
فكل طغاة التاريخ الذين مرّوا على غزة وفلسطين عبر آلاف السنين مضوا وبقوا أثرا في التاريخ، وبقيت غزة وفلسطين عصيّتين على الزوال، وبقي شعبهما الأبيّ مرابطًا عصيًّا على الفناء.
من يدرك هذه الحقيقة يفهم أن الفلسطيني لا يعيش على أملٍ مؤجَّل، بل على يقينٍ عميق بأن الوطن فكرة خالدة لا تُهدم.
فكما سلّم الآباءُ لأبنائهم مفاتيح البيوت في مدنهم وقراهم قبل ثمانيةٍ وسبعين عامًا، ها هم الغزيون اليوم يحملون مفاتيح الذاكرة والكرامة، ويمشون نحو الركام كأنهم يمشون نحو الحياة.
تلك هي المعجزة الحقيقية:
أن يخلق المقهور من بين الرماد معنىً للوجود، وأن يُعيد تعريف الوطن والإنسان والتاريخ.
أن تُولد الحضارة من الألم، وأن يصبح الركام مدرسةً في الحرية.
ففي فلسفة الوجود، لا تُقاس الشعوب بمساحة الأرض التي تمتلكها، بل بقدرتها على أن تبقى حيّةً في الذاكرة وفي الوعي الجمعي للإنسانية.
وفلسطين، وفي القلب منها قطاع غزة، بكل ما تحمله من رمادٍ ودمٍ وضياء، تُجسّد هذا المعنى الأسمى للخلود.
فهي ليست مجرد مكانٍ على الخريطة، بل فكرةٌ في التاريخ، ووجدانٌ في الإنسان.
من بين الركام تولد الحياة، ومن عمق الألم يتجدّد المعنى، لأن الحرية والكرامة ليستا هبةً من أحد، بل فعلَ خلقٍ يوميٍّ يصنعه الإنسان حين يصرّ على البقاء، رغم كل ما يُراد له من فناء.
وهكذا، تبقى غزة – الكنعانية الجذور، الفلسطينية الوعي، الإنسانية الرسالة – برهانًا على أن الروح لا تُقهر، وأن الإنسان الحرّ قادرٌ أن يُهزم ألف مرة دون أن ينكسر مرةً واحدة.
غانية ملحيس