رنا علوان
“‘الضغط السياسي لصالح الصهيونية على ضفتي الأطلسي”‘ هذا الكتاب هو من أحدث إصدارات المؤرخ البارز والمعارض للصهيونية إيلان بابيه ، والذي يجب ان يقرأ له العرب ، ولو ان معظم العرب لا يقرأون
في صيفٍ غارقٍ بالطوفان ، صدر هذا الكتاب ، وبمفهوم عرّى ازدواجية الغرب وفضح نفاقه
يُقدّم لنا بابيه في طيات كتابه سردًا كاشفًا لتاريخٍ عمره أكثر من قرن ، تبلور فيه الضغط السياسي المكثف عبر ضفتي الأطلسي ، ما أدى الى تغيّر خريطة منطقة “الشرق الأوسط”
يمكن لقارئ الكتاب أن يفهم اصطفاف الحكومات والإعلام الغربيين وراء العدوان الصهيوني على غزّة ، واستعدادهما تبرير كل جرائمه بلا حسيبٍ ولا رقيب
عندما تحمل الكتاب وتقلبه ذات اليمين وذات الشمال ، طوال 628 صفحة ، أكثر ما سيستوقفك هو مُحاولة بابيه الإجابة عن سؤالين جوهرين وعميقين وهما :
لماذا الكيان الغاصب لا زال غارقًا في سعيه لإيجاد ما يُبيّن شرعيته رغم قيامه منذ 1948 ، ورغم زعمه بأنه أكبر قوة عسكرية في المنطقة وصاحب أحدث التقنيات فيها ؟؟؟
ولماذا لا تزال القضية الفلسطينية لا تحظى بالشرعية في كبريات عواصم صناعة القرار العالمي والسياسات العالمية ، رغم عدالتها الواضحة والظلم التاريخي الكبير الذي لحق بشعبها منذ عقود ؟؟؟
وللإجابة ، يعود بابيه إلى التاريخ في محاولة متأنّية لإعادة تفكيك تاريخ “اللوبي الصهيوني”
فيبدأ بنشأته ثم سيرته الأولى وكيف امتلك قوته وكيف تغلغل داخل دوائر صنع القرار العالمي الأساسية ؟؟؟
وأيضًا لم يغفل عن الإحاطة بنقاط ضعفه وعجزه
وبه يُعيدنا بابية الى تسعينيات القرن الماضي بسردٍ دقيق ينسج فيه قصة ظهور اللوبي الصهيوني بداية القرن التاسع عشر ، ويكشف كيف تشكلت جماعات الضغط الصهيونية الثقافية السياسية في أميركا وبريطانيا من الفكرة الجهنميّة التي تبنّاها ساسة ومفكرون غربيون لإيجاد حل لـ “المشكلة اليهودية” في بلدانهم ، بـ”تصدير” اليهود الغربيين إلى فلسطين ، وطرد أهلها الأصليين وتحويلها وطنًا قوميًا لليهود
في هذه الرحلة الى الماضي يعود بابيه ليرسم أصول التحريض على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين … حيث تبدأ هذه القصة مع الإنجيليين المسيحيين ، ما قد يفسّر استخدام بابيه مصطلح “اللوبي الصهيوني” بدلاً من “اللوبي المؤيد لإسرائيل” المعتاد … ويتتبع أصول الضغط الصهيوني في القرن التاسع عشر ، تحديدًا عندما تعاون الصهاينة المسيحيون الذين سعوا إلى التعجيل بعودة المسيح ، مع الصهاينة اليهود ، بدافع من الحماسة القوميّة والرغبة في مساعدة يهود أوروبا على الهروب من معاداة السامية ، لإقناع الحكومة البريطانية بتأسيس دولة يهودية
بعدها يصل بنا بابيه إلى الولايات المتحدة ، حيث انضمّ المحافظون الجدد بعد الحرب العالمية الثانية إلى الصهاينة المسيحيين واليهود لإقناع السياسيين بدعم الكيان الغاصب بحجة جعله قاعدة متقدّمة ضد المد الشيوعي إبّان الحرب الباردة
يقول بابيه إن أول ما فعلته الصهيونية هو تحويل اليهوديّة من ديانة إلى قوميّة حتى يتسنّى لها بناء المشروع الصهيوني ، بما أنه لا شيء كان يجمع بين شتات اليهود المتفرّقين في جميع بقاع الأرض ، والذين لا تربط بينهم أية علاقة عرقية أو إثنية تدفعهم إلى الهجرة للعيش في “وطن قومي” واحد يجمع شملهم
والبداية ، كما يقول إيلان بابيه ، فهي انطلقت من تفكير مجموعة صغيرة من المفكّرين ورجال الدين اليهود والمسيحيين ، الذين كانوا يرون أن أفضل حل لمشكل “معاداة السامية” في أوروبا إيجاد “وطن قومي” لليهود في فلسطين وإقناعهم بالهجرة إليه وتوفير كل عوامل التحفيز والدعم المادي والمعنوي والروحي لتشجيعهم عليها … وما زال هذا التفكير الصهيوني ، كما يقول بابيه ، في أوّجه ويشتغل بفعالية في جميع بقاع الأرض ، خاصة في الدول الغربية
في تفصيلٍ عميق ، يحتوي الكتاب على مُقدمة من ثم 11 جزء
1)رواد الصهيونية المسيحيون
2)الضغط من أجل وعد بلفور
3)الطريق إلى وعد بلفور
4)الضغط في بريطانيا خلال فترة الانتداب
5)الضغط الصهيوني المبكر في الولايات المتحدة الأمريكية
6)الصهاينة الأمريكيون والمحرقة
7)الضغط من أجل إسرائيل في بريطانيا ما بعد الحرب
8)الضغط من أجل إسرائيل في أمريكا القرن العشرين
9)الضغط من أجل إسرائيل في أمريكا القرن الحادي والعشرين
10)الحرب ضد المجتمع المدني الأمريكي
11)الضغط من أجل إسرائيل في بريطانيا القرن الحادي والعشرين
والخاتمة
في الجزء الثامن للكتاب اي في القرن العشرين وفي ثنايا تحقيقه ، يكشف لنا بابيه كيف تمكّن ضغط هذا اللوبي الصهيوني من تغيير خريطة الشرق الأوسط ، وإقناع صنّاع السياسة في الغرب ، خاصة في أميركا وبريطانيا ، بالتغاضي عن انتهاكات العدو الإسرائيلي الصارخة للقانون الدولي ، ومنحه المساعدات العسكرية غير المسبوقة
ويظهر لنا كيف نجح هذا اللوبي على ضفتي الأطلسي في بناء إجماعٍ قويٍّ حول الكيان الإسرائيلي الذي لا يمكن المساس به
أما في القرن الحادي والعشرين ، يكشف لنا بابيه عن الأساليب المستخدمة للتأثير على القرارات السياسية والتغطية الإعلامية وصناعة الرأي العام بشأن الكيان الإسرائيلي الغاصب وفلسطين ، ويظهر كيف أدّى تأثير هذا اللوبي إلى قمع كل نقاش عقلاني بشأن فلسطين والعدو الإسرائيلي ، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب مدمرة
في خاتمة الكتاب كان بابيه مُجيزًا ، لكن مثله حتى لو أجاز لن تجد تلميع او تناقض للفصول التي يأتي عليها (فهو اليهودي الكاره لنفسه كما يُطلق عليه وأمثاله من أبناء جلدته) كما يُفرض عليه حتى في الغرب حصارًا إعلاميًا وسياسيًا ، حيث مُنعت بعض كتبه وسحبت أخرى من المكتبات الغربية ، وتعرّض للتوقيف في مطار أميركيا اكثر من مرة، وخضع للتحقيق ساعات رغم أنه يحمل الجنسية الكيان الإسرائيلي الغاصب ، هذه الخاتمة قد كتبها بعد أحداث السابع من أكتوبر (2024) ، فيها يعترف بابيه بأن هذا اللوبي نجح في استمالة مجموعات مصالح منفصلة لتشكيل درع يمكن أن يحمي الكيان الاسرائيلي من المساءلة عن انتهاكاته العدالة والقانون الإنساني … لكنه يرى ان الأمر سينتهي إلى حقيقة تبدو بمثابة نقطة ضوء في نهاية النفق عندما كتب : “كثيرون في القرن الحادي والعشرين لا يستطيعون أن يستمرّوا في قبول مشروع استعماري يتطلب احتلالاً عسكريًا وقوانين تمييزيّة من أجل استمراره … وهناك نقطة لا يستطيع عندها هذا اللوبي أن يؤيد هذا الواقع الوحشي ، ويستمر في النظر إليه باعتباره أخلاقيًا في نظر بقية العالم … وأعتقد وأتمنّى أن نصل إلى هذه النقطة في حياتنا”
أما ما يستوقفك بعد انتهاء القراءة ، هو لماذا لم يحظ هذا الكتاب بأي اهتمام أو نقاش من الإعلام العربي … بابيه ابن هذا العدو و”شاهدٌ من اهلها” ، أخذته شجاعته لتحطيم عنجهية هذا الكيان والتصدي له ، بل وذهب ابعد من ذلك
، الى “اللوبي الصهيوني”، وإذا ما علمنا أن النطق بمجرّد هذا المسمّى (لوبي صهيوني) يعدّ معاداة للسامية ، هنا ندرك مدى خطورة حقل الألغام الذي وضع فيه بابيه هذه المرّة أقدامه ، وفي هذا الكتاب لم ينتقد اي منهما ، وإنما حاول تتبع الجذور ليضع القارئ ، أمام صورة تاريخية كبيرة تشرح له كيف تأسّس هذا اللوبي وكيف تطوّر حتى أصبح على ما هو عليه … مؤسف ان اعلامنا المتصهين “ابن جلدة عدونا” اشرف وانزه منه … فالتفاهة باتت مأكلهم ومشربهم وجل اهتمامهم ، سكارى وما هم بسكارى … ومن مُنطلق اعرف عدوك ، فالجهل العربي ايضًا عدو والغباء والتخاذل والخيانة والتعصب والتطرف الديني والفِتن ايضًا أعداء ، ومحاربتها باتت أوجب من الوجوب
2025-09-07