ماذا بين شعار وراء العدو في كل مكان لوديع وشمولية الثورة لأنيس؟
“لي في هذا العالم أصدقاء قساة، خطفوا طائرات، احتجزوا رهائن، زرعوا عبوات، زوَّروا باسبورات، وتحايلوا على المطارات، اختاروا أسماء مستعارة وعاشوا في ظلها، تمردوا على الظلم وطاردوا العدو في كل مكان، وعادوا من الرحلة، هذا أصيب في روحه وقهرته الأيام، وذاك أصيب في جسده ويعيش مع الأدوية والذكريات، وثالث دفن بعد آلاف الأميال من التراب الذي كان يناديه…
إنّهم رفاق وديع حداد مسؤول المجال الخارجي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.” من كتاب غسان شربل: أسرار الصندوق الأسود، وديع حداد – كارلوس – أنيس النقاش – جورج حبش.
ما ستقرأه في الأسطر القادمة ليس خيالاً لأديب ولا فلماً لمخرج ولا حلماً لطفل، بل هو جزء صغير من حقائق الصندوق الأسود.
مقدمة
منذ بدايات القرن العشرين بدأت الرأسمالية تتخذ شكلها الإمبريالي المعولم، لتفرض نظامها القائم على الاستعباد والنهب والاستغلال والقهر والسحق على كافّة شعوب العالم، وكانت الصهيونية العالمية أحد الأدوات الرئيسية التي وظفتها الإمبريالية لتحقيق هيمنتها المطلقة على الكوكب وعولمة حكم الأوليغارشيا عالمياً، أي حكم النخبة التي تتحكم بالاقتصاد والسياسة والإعلام على مستوى الكوكب، وزرعت الصهيونية في أرض فلسطين مشروعها الذي سمي “إسرائيل” عقب تقسيم الوطن العربي بموجب “سايكس-بيكو” ، بهدف تفتيت وحدة الأمّة العربية وإجهاض أي نهضة أو ثورة كمقدمة لتسهيل السيطرة الاقتصادية والسياسية عليها، وأدركت الثورة الفلسطينية مبكراً طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه وارتباطاته الوظيفية بالإمبريالية ، كما أدرك ذلك العديد من الأحزاب والحركات الثورية والتحررية العربية والعالمية، واعتبر النضال الفلسطيني في وجه الصهيونية رأس حربة يجسّد نضال الشعوب المقهورة والطبقات المسحوقة في وجه الإمبريالية، ورأى العديد من المفكرين الثوريين من مختلف الأعراق والأجناس أنّ هزيمة الإمبريالية في أي موقع يعني بالضرورة إضعاف الإمبريالية في باقي المواقع ما يسهّل الطريق لاستكمال النضال ضدها في جبهات أخرى، كما أدرك ثوّار العالم في الشرق والجنوب أن بتر يد النهب والاستغلال الإمبريالي في الدول الواقعة تحت الاستعمار بشكله القديم (العسكري أو الاستيطاني) والجديد (الاقتصادي والسياسي، أو الاستعمار عن بعد) يعني بالضرورة تقويض المقدرات الاقتصادية للنظام الإمبريالي الذي سيعوّض هذه الخسائر من جيوب مواطني المركز الإمبريالي، أي المواطنين في الدول الرأسمالية الإمبريالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، هذا الواقع سيدفع مواطني المركز لتنظيم حراكات واحتجاجات ضد حكوماتهم بسبب سحب الامتيازات، في هذا الإطار النظري العملي الواقعي، تم التنظير لمعاداة الإمبريالية الأوليغارشية باعتبارها نضالاً أممياً ينضوي تحت لواءه كل شعوب العالم المقهوره وطبقاته المسحوقة.
وأهل فلسطين كانوا ومازالوا على قدر المسؤولية التاريخية التي فرضت عليهم، رأس الحربة في مواجهة الصهيونية باعتبارها واحدة من أهم قواعد الإمبريالية في العالم، ومن خلال صمودهم ونضالهم الأسطوري ألهموا كافة الثورات والنضالات و لا يزالون .
من هنا ندرك أبعاد تأثير طوفان الأقصى على تحرير العالم من الاستكبار والطاغوت، وكيف تتحوّل رمزية النضال والصمود الفلسطيني بسرعة البرق إلى رمزية عالمية تستنهض أحرار العالم وتدفعهم للنضال والتضحية، ففلسطين مهد الحضارات والديانات لطالما ربّت الضمير العالمي وتعيد الآن تربيته من جديد بعد أن ضلَّ وانحرف.
وديع
في محطات النضال الفلسطيني المستمرة ظهر العديد من المناضلات والمناضلين الذين ألهموا العالم، وأبرزهم وديع حداد صاحب شعار “وراء العدو في كل مكان” الشعار الذي نجح حداد مسؤول المجال الخارجي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تطبيقه إلى درجة أنه شكّل تهديداً لأركان النظام العالمي كلّه، واعتبر حينها زعيم إمبراطورية الإرهاب العالمية، وهو وصف صحيح لأنّ تجربته أرهبت أركان النظام العالمي كلّه. “ما أسماه الغرب إمبراطورية الإرهاب كان بالنسبة لوديع لقاءً طبيعياً بين ثوار وهبوا أنفسهم لمعركة ضد الظلم داخل بلدانهم وعلى مستوى العالم كله.”
أنشأ المجال الخارجي معسكرات تدريبية في عدة دول عربية، ومن خلال برامجه التدريبية شديدة الصرامة تم تأهيل وإعداد ثوّار أمميين من مختلف الجنسيات من النواحي النفسية والفكرية والسياسية والعسكرية، أقيمت المعسكرات في بعلبك في البقاع وقرب صيدا جنوب لبنان وفي مقديشو والمعهد الأكبر كان معسكر جعار في عدن اليمنية، تخرج من معسكرات الثورة شباب من مختلف الجنسيات ومجموعات ثورية وكفاحية مختلفة، الجبهة الشعبية لتحرير تركيا، مجموعات الجيش الأحمر الألمانية، والجيش الأحمر الياباني، مجموعة العمل المباشر الفرنسية، والجبهة الشعبية لتحرير ظفار، والجبهة الشعبية لتحرير أريتريا، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والساندينيون، التوباماروس، ومجوعات الثاني من حزيران الألمانية، والخلايا الثورية الألمانية، مجموعات إيتا الإسبانية، والألوية الثورية اللبنانية بقيادة جورج عبدالله، ومجموعات ثورية من نيكاراغوا وتشيلي وسلفادور وزامبيا وزمبابويه وفنزويلا وإيطاليا وهولندا.
كما نجح المجال الخارجي في تجنيد أوروبيين للاستطلاع وجمع المعلومات من داخل الكيان، وتجنيد يابانيين لتنفيذ عمليات عسكرية لصالح القضية الفلسطينية، وتشكلت شبكة معقدة بأسماء مستعارة ووثائق مزوّرة من ثوّار من حول العالم ومن جنسيات كثيرة قادرة على الضرب في كل القارات والعواصم، ونفذت عمليات نوعية أربكت العالم وحبست أنفاسه؛ اختطاف طائرة لوفتهانزا، وعملية مطار الثورة في الأردن، عملية عنتيبي، عملية اللد بتنفيذ الرفاق من اليابان، وعملية مقديشو، ومهاجمة خطوط شركة التابلاين، مطاردة طائرات العال الإسرائيلية، والتخطيط لاغتيال كسنجر في دمشق أو القاهرة، ومحاولة لاغتيال أحد الملوك العرب.
وتحت قيادة وديع تحوَّل المجال الخارجي معهداً للثوار، تخرج منه آلافٌ هزوا العالم بعنف؛ مريم اليابانية أو نوريكو شيغينوبو زعيمة الجيش الأحمر الياباني، ومجاهد الأرمني أو آغوب أغوبيان زعيم الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا، وجلال طالباني، وسالم الفنزويلي أو كارلوس أشهر مطلوب في العالم في حينه.
أنيس
كانت عملية احتجاز وزراء “أوبك” واحدة من أشهر العمليات التي نفذها كارلوس في فيينا، ولم تكن لتنجح إن لم يكن شريكه في العملية أنيس النقاش.
انتسب أنيس في نهاية الستينات إلى التنظيم الطالبي لحركة فتح، وخضع لتدريب عسكري، وعيّن مسؤولاً عن الخلايا السرية التي أُنشئت عند الحدود اللبنانية – “الإسرائيلية”، وشارك في الجبهة الفلسطينية التي فتحت في منطقة العرقوب خلال حرب تشرين الأول 1973، وبعد لقائه بخليل الوزير أبوجهاد اختار أن يعمل في أمن الثورة من خارج المؤسسات الأمنية المعروفة، ثمّ انتقل للعمل مع مجموعة وديع حداد.
يقول أنيس النقاش في كتاب أسرار الصندوق الأسود، أنّه تأثر بكتاب استراتيجي يتحدث عن دور التحالفات العسكرية والتوزيع الاستراتيجي في العالم، ومن خلاله فهم دور حلف شمال الأطلسي وتركيا وإيران وطريقة الدول الكبرى في التخطيط لمصالحها، وقرر العمل على تغيير الأنظمة في تركيا وإيران، وكتب رسالة لأبو جهاد بعنوان “الإمبريالية تخطط بشمولية وعلى الثورة أن تخطط بشمولية”، اقترح فيها توسيع العلاقات مع الحركات الثورية وحركات التحرر لإقامة شبه تحالفات ثورية مضادة لتخالفات الإمبريالية، وعمل على بناء علاقات مع ثوار أتراك وإيرانيين.
كلّف لاحقاً من خلال “المجال الخارجي- الجبهة الشعبية” بتدريب المعارضة الإيرانية لنظام الشاه، وكان أوّل من طرح فكرة إنشاء الحرس الثوري الإيراني لحماية الجيش الإيراني من الانقلاب على الثورة، وواكب ولادة الفكرة ونموّها، وتطورت علاقته بالثورة الإيرانية إلى حد ترؤس الفرقة التي حاولت اغتيال رجل أميركا في إيران رئيس الوزراء الإيراني شهبور بختيار في باريس عام 1980، وقبلها خطط لاغتيال السفير الأميركي في بيروت غودلي، والمبعوث الأميركي دين راون والملحق العسكري الفرنسي.
يقول أنيس: “كان انتصار الثورة الإيرانية انتصاراً لنا، أفرز تغييراً استراتيجياً في المنطقة بقلب أقوى الأنظمة من حيث عدد السكان والجيوسياسة والجيش والإمكانيات المادية والنفطية من دولة معادية لنا متحالفة مع “”إسرائيل”” إلى العكس.”
وللقصة بقية…

أ . علي حمدالله – فلسطين