كيف أودّع شخصا مثل جورج قرم (أبو منير)؟ وهل بإمكاني توديعه وحضوره قائم في ذاكرتي ووجداني في الساعة التي اسطّر فيها هذه الكلمات؟ وهل هناك من كلمات تستطيع أن تعبّر مدى الألم والحزن الذي يعصف بي؟ وكيف أتعامل مع رحيل ورفيق الدرب الطويل في مشروع نهضة وطننا وأمتنا؟ وما هي الكلمات التي تعبّر عن فقدان صديق عزيز بل أخ امتدت العلاقة معه على أكثر من خمسين سنة وقفزت فوق البحار والصحاري والقارات التي لم تستطع منع التواصل بيننا؟ لست بليغا كي أستطيع أن اعطي جورج حقّه وهو يستحق أكثر مما أقوله أو تقوله قافلة الأصدقاء والمحبّين والمعجبين. لم أكن أتصوّر أنه سيأتي يوم أجلس أمام شاشة الحاسوب وافتِش عما يمكن أن أقوله في رحيل قامة من قامات الوطن والأمة العربية؟
سيل من الكلمات قرأتها بحق جورج، وهي كثيرة وصادرة عن شعور حقيقي بالخسارة الكبيرة. فقد رحل “أحمد مارون”، نعم في أحلك أيام الحرب الأهلية المشؤومة وحتى قبلها عندما كان يتنبأ بالانفجار، كان جورج يوقع مقالاته “احمد مارون” مؤكّدا أن لبنان وطن واحد ولجميع أبناءه، وأن الطائفية لا مكان لها في فكره ووجدانه.
صداقتي معه امتدّت على مدى أكثر من خمسة عقود حين التقيت به في أروقة شركة انترا في مطلع 1971. كنت قد قرأت له أوّل كتاب صدر له عن التخطيط في لبنان في حقبة الرئيس الراحل فؤاد شهاب. وكان قد انتهى من مرافعة أطروحته الدكتوراه حول المجتمعات الطائفية. رأيت آنذاك الشاب الهادئ الذي كان ينظر إلى قضايا الوطن من منظور لم أكن أتصوّره ذلك الحين.
ومع الوقت تطوّرت وتوثقت العلاقة فأصبحنا نواكب سويا مختلف المحطات التي حددت مسيرة الوطن والأمة. فكنا نوعا من الصدى للآخر وخشبة الرنين لأفكارنا بعضنا لبعض إذا جاز الكلام ((sounding board! فالمسيرة التي اشتركنا فيها، كانت وما زالت، لدرء الظلم ولنصرة المستضعفين وسائر المحرومين والملعونين على الأرض (les damnés de la terre).
أفتخر بأنني أتكلّم عن صديق ومناضل عزيز أثبت في فكره وعبر مؤلفاته ومحاضراته ومواقفه عن إبداع والتزام وصدق ومناقبية قليلا ما شهدناها عند كثير من المفكرين العرب واللبنانيين خلال العقود الماضية. والصداقة التي ربطتني به تجعل شهادتي به “مجروحة” كما نقول بالعامية. وأعتقد أن بسبب هذه العلاقة التي قفزت فوق القارات التي فرقتنا جغرافيا بسبب الظروف التي مرّ بها الوطن جعلتني، من القليلين (إن لم أكن الوحيد!) بعد زوجته هالا وحتى قبل الناشرين، من الذين قرأوا جورج قرم عندما كانت مؤلفاته مخطوطات على الآلة الكاتبة قبل ظهور الحاسوب. وما زلت محتفظا ببعض المخطوطات على ورق الكاربون التي أرسلها لي للتعليق عليها خاصة تلك المتعلّقة بمؤلفه المفصلي “انفجار شرق الأوسط”.
وماذا أقول عن المفكرّ والجامعي الذي حاضر في عقول الشباب في لبنان وغير لبنان حيث أصبحت مؤلفاته من أهم المراجع عن لبنان والوطن العربي؟ والدليل على ذلك أقدم شبّان من الجزيرة العربية طالبين من جورج أن يقدّم كتابهم عنوانه “في معنى العروبة”. وتقديرا لدوره نظّمت الصديقة الدكتورة باسكال لحود حفلة تكريمية في المعهد الانطوني لجورج كأحد الأعلام الثقافية في لبنان كان لي الشرف أن أشارك فيها مع كوكبة من المثقفين الذين أدلوا بشهادات تقدير لأعماله.
وماذا أقول عن المستشار الاقتصادي الذي لجأت إليه عدد من الحكومات العربية والمؤسسات الدولية كالبنك الدولي والأمم المتحدة؟ كل واحد منها تستحق أكثر من محاضرة لكشف بعد وعمق تفكيره في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، والثقافة.
ماذا أقول عن العروبي الذي دافع في المحافل الأوروبية والأميركية قضايا لبنان وقضايا العرب وفي مقدمتها قضية فلسطين رغم المعارضات والاقصاءات. أذكر أن جامعة برنستون الأميركية العريقة كانت قد دعته إلى إلقاء محاضرة في حرم الجامعة إلاّ أن اللوبي الصهيوني ضغط على إدارة الجامعة فسحبت الدعوة دون تقديم أي سبب. ومحاضراته في فرنسا في الجامعات وفي محافل رسمية حول قضايا لبنان وقضايا العرب جعلته من أبلغ السفراء العرب في كشف النفاق بحق لبنان وفلسطين.
كنت أقول له دائما أنه أول “مستغرب” (نظير المستشرقين الغربيين) عربي لأنه فكّك مفاصل الفكر والثقافة الغربية وكشف عيوبها وهو الذي تشرّب تلك الثقافة دون أن ينسى ثقافته العربية. لم يقم بذلك إلاّ لفضح النفاق الغربي. فكتابه النقدي عن “انفجار شرق الأوسط” يكشف في مقدّمته الكتابات الملتوية لقضايا المنطقة من المنظور الغربي. وله تساؤل حول تلك الثقافة الغربية التي تنتج في آن واحد أعلام عبقرية كالمؤلف الموسيقي موزار والوحوش كهتلر؟ هذا ما جاء في أحد فصوله عن أوروبا وثقافة الغرب.
جورج قرم لم يكن مفكّرا فحسب بل كان من عشّاق الموسيقى الكلاسيكية وموهوبا. فكان يعزف البيانو بمهارة تجعله مؤهّلا للاحتراف غير أن تواضعه جعله لا يتكلّم عن تلك الموهبة ولما اكتشفتها احمّر وجهه من الخجل. فوالده الرسّام أنجب الموسيقار والمفكّر!
ماذا أقول عن رحلته المؤلمة في الحكومة عندما كان وزيرا للمالية؟ بذل كل الجهد لتصحيح الأخطاء في السياسة المالية والنقدية لكنه اصطدم بفساد الطبقة الحاكمة التي “نجحت” بعد عشرين سنة في إفلاس الدولة وإفلاس المصارف وإفلاس الوطن! كان يشكي لي دائما عن فساد تلك الطبقة ولا مبالاة من كان مفروضا أي يكون “صديقا” أو “مرجعية”. فالنزاهة والكفاءة غير مرغوبتين لتولّي المسؤولية بل الفساد الأخلاقي والجهل هما مواصفات الوصول إلى الحكم.
فقد لبنان والوطن العربي عالما وفقدت أنا صديقا وأخا عزيزا للغاية. خسارة من الصعب التعويض عنها إلاّ ربما في أحياء ذكراه وخاصة أعماله.
فوداعا يا جورج رحلت عن هذه الدنيا وعن هذا الوطن الذي قدّمت له كل ما لديك. وكل العزاء لشريكة عمره زوجته الأخت العزيزة هالة وأولاده ثريا وعلياء ومنير أمدّكم الله بالصبر والسلوان فإن ذلك من عزم الأمور. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
زياد حافظ – باحث وكاتب اقتصادي سياسي