كثر التشكيك في عملية “طوفان الأقصى” الفذة في بعض الدوائر فلسطينياً، وخصوصاً على خلفية الدمار الواسع والمجازر الوحشية التي ارتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة من بعدها، إذ أصبح واضحاً أن حكومة الاحتلال اتخذتها ذريعةً لشن حملة تهجير للغزيين مجدداً بعد ترك غزة غير قابلة للسكن حتى بالنسبة لكلاب غزة البرية التي نقلت تقارير إعلامية وفيديوهات شتى أن آلافاً منها نزحت عن القطاع المنكوب وغزت غلافه وراحت تفتك بمزارع العجول فيه وكل ما يقف في طريقها، كأنها نذيرٌ من الطبيعة بما سيلحق بالغزاة القدامى-الجدد للقطاع إن عاجلاً أو آجلاً، أو كأنها مثالٌ آخرُ على القانون الثالث للحركة الذي وضعه نيوتن بأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكسٌ في الاتجاه.
كثر التشكيك بعملية “طوفان الأقصى” إذاً بأثرٍ رجعي، على خلفية غزو صهيوني جديد ومستمر منذ 27 تشرين الأول / أكتوبر الفائت، حتى راح البعض يهمس بأنها جزء من “مؤامرة” على الشعب الفلسطيني هدفها تبرير الغزو الجديد، وهو غزو همجي كامل الأبعاد، لا عملية عسكرية محدودة فحسب، مع العلم أن إدانة عملية “طوفان الأقصى” البطولية، بجريرة ذلك الغزو بالذات، تصب في طاحونة نهج التعايش مع العدو الصهيوني والتنسيق أمنياً معه والاستخذاء له.
الأساس في الموقف من الاحتلال، أي احتلال، أن تكون العلاقة معه علاقة نفي متبادل وصراع تناحري، وأن يجري التساؤل لماذا لم تحدث طوفانات أخرى أكبر وأوسع، من قبل “طوفان الأقصى” ومن بعده، عبر غزة وكل الجبهات الأخرى مع العدو الصهيوني، وحتى من خلف خطوط العدو، لا أن يُساءل قباطنة “طوفان الأقصى” عن مشروعيته وحكمته وجدواه.
لقد أظهر ذلك الطوفان مدى هشاشة البنية العسكرية والأمنية للكيان الصهيوني، والإمكانية الواقعية لمشروع تحرير فلسطين في زماننا، وأن إغراق الكيان الصهيوني ممكن حتى بإمكانيات غزة الضئيلة والمحاصرة، فما بالك بجزء من إمكانيات الأمة العربية عندما تتوافر الإرادة ويتجذر المشروع؟
لقد عرّى “طوفان الأقصى” دولاً وجيوشاً بأكملها، لكنه أسقط ورقة التوت بالأخص عن مسار جربته الساحة الفلسطينية عقوداً، وظهر عقمه وفشله قبل الطوفان، مسار التسوية والتعايش مع العدو الصهيوني.
كما أن الطوفان هز ثقة المستعمرين المستوطنين بقواتهم المسلحة وأجهزتهم الأمنية وباستقرار “دولتهم”، واسترجع، بالمقدار ذاته، ثقة المواطن العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً، بالمقاومة المسلحة وبمن يتبناها بأنهم ليسوا فقط أهل أرضية أخلاقية وسياسية أعلى، بل أنهم أكفاء واسعو الحيلة أقوياء الشكيمة شديدو البأس والمراس، وبالتالي يمكن الرهان عليهم كفرسان قادرين على حصد الإنجازات والانتصارات في ميادين الصراع.
كلّف العدوانُ الصهيونيُ على غزة الاحتلالَ – على الرغم من همجيته القصوى – مئات القتلى وآلاف الجرحى من جنوده، كما جرح مصداقيته المهنية كجيش محترف عجز حتى الآن عن تحقيق الأهداف المعلنة للغزو، وعلى رأسها إطلاق سراح أسراه في غزة عنوةً، وتقويض القدرات العسكرية للمقاومة، واجتثاث وجودها من القطاع.
أما هدف تهجير أهل غزة، فحتى محافظة شمال غزة، المستهدفة بالتهجير أكثر من سواها، ما يزال يقطنها مئات الآلاف، في ظروفٍ لا يمكن تصورها، لكنهم باقون – بالرغم منها – شوكةً في عين الاحتلال ومشاريعه.
كما أن تمادي الاحتلال في ممارسة الجنون الجنائي تدميراً وقتلاً كلفه سياسياً ومعنوياً، في عمق معاقل تأييد الكيان الصهيوني غربي أوروبا وشمالي أمريكا. وها هي التظاهرات الضخمة المناهضة للاحتلال تردد عبر الأطلسي، من لندن إلى واشنطن: From the river to the sea, Palestine will be free، أي من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر. وهو الشعار المنطقي والطبيعي الوحيد عندما يكون هناك احتلال ولا يكون العقل السياسي للقابعين تحته ملوثاً بالدونية، التي تجعل التعايش مع المحتل رغبة دفينة، أو بالحس الانهزامي، أو بالتذبذب الانتهازي.
ليكن واضحاً أن “طوفان الأقصى” لم يولد من العدم، ولم يهبط على المشهد السياسي من كوكب نبتون، بل جاء رداً عربياً فلسطينياً أصيلاً على تاريخ من الإجرام اقترفه من هبط علينا من كوكب نبتون.
وإذا كان الصراع مع العدو الصهيوني قد تصاعد منذ عام 2008، فإنه لم يبدأ في ذلك العام، بل خاضت غزة تسع حروب قبل عام 2008. وفي حرب الـ 67 مثلاً جرى تهجير ما بين 40 و45 ألفاً من أهل القطاع خارجه. وفي حرب الـ 56، استشهد 1200 غزي، وارتكب العدو الصهيوني مجزرتين كبيرتين في خان يونس ورفح.
بعد ما يسمى “فك الارتباط” عام 2005، وتفكيك المستعمرات الصهيونية في غزة، ارتقى 668 شهيدٍ في غزة بين عامي 2005 و2007، واحتل العدو الصهيوني أجزاء من شمال القطاع، وشن غارات وهجمات على جباليا وبيت لاهيا.
في عام 2007، فرض الكيان الصهيوني حصاراً رهيباً على قطاع غزة، مغلقاً المعابر، ومقنناً دخول المحروقات والكهرباء وكثيرٍ من السلع، ومانعاً الصيد في عمق البحر. كانت تلك نقطة التحول الساخنة التي حولت غزة إلى أكبر سجن مفتوحٍ في العالم، غالبية نزلائه من النازحين أصلاً، وتبلغ مساحته 365 كيلومتر مربع فحسب، كانت تُعرف من قبل حصارها بأن لديها أحد أعلى معدلات الكثافة السكانية في العالم.
وفي عام 2008، جرى الاتفاق على تهدئة لمدة 6 أشهر لم يلتزم الكيان الصهيوني خلالها برفع الحصار عن غزة أو بوقف عملياته في القطاع. وبين 1/1/2008، و31/8/2023، شن الكيان الصهيوني عدة حروب على غزة، كما هو معروف، ارتقى فيها 6407 شهداء. وكان الغزو الصهيوني الأخير لقطاع غزة الحرب رقم 15 التي يشنها على القطاع منذ عام 1948.
فلا يصح أن يقال بعدها: لماذا “طوفان الأقصى”؟ أو أن الطوفان كان خطوة غير محسوبة جلبت حرباً جديدة على القطاع وأهله، إذ إن العدو الصهيوني هذا ديدنه منذ حلّ في أرضنا استعماراً استيطانياً إحلالياً قام على المجازر والقتل والاستئصال، في غزة وفي غيرها، كما يشهد سجلّه وتاريخه.
وإذا كان وجع غزة وحصارها قد فاض على غلافها في تلك الصورة الرائعة التي تشفي الصدور، فإننا كأنصار مقاومة لا يجوز أن نعتذر عن ذلك مطلقاً، بل نتباهى به. ومن يجب أن يُساءَل هو المتقاعس والمتواطئ والمتآمر، ومن يشارك في حصار غزة، ومن يريد من غزة أن تكون طفلاً مذبوحاً فحسب، لا مقاتلاً منتصراً.
عجيبٌ أمر من يهاجم كتائب القسام إذا لم تشارك في جولات قتال سابقة في غزة، فإذا شاركت، هاجمها أيضاً واتهمها بالرعونة. وعجيبٌ أمر من يهاجمها إذا لم تمضِ في معركة “سيف القدس” إلى نهاياتها، فإذا مضت بعدها في المعركة إلى نهاياتها، هاجمها أيضاً واتهمها بالتفريط بغزة وأهلها. فلا هي تسلم من النقد إذا شاركت ولا إذا لم تشارك. الأمر الذي يدل على أن الهدف هو نقدها، لا الاحتكام إلى مقياسٍ مبدئي.
من جهتي، كمواطن عادي، أحتكم إلى بوصلة في الشأن الفلسطيني، أرى أنها لم تَخِبْ يوماً منذ بدء الصراع: كل من يقاتل العدو الصهيوني ندعمه، وكل من ينخرط في مشاريع تعايش وتسوية مع العدو الصهيوني ننتقده. وربما يضطر المقاتل إلى عقد الهدن أحياناً، أما الاعتراف بحق الكيان بالوجود فخطٌ أحمر. وبناءً عليه، فإن كل مقاتل من أي فصيل، أو من خارج أي فصيل، يعد جندياً في جيشٍ واحدٍ هو جيش تحرير فلسطين، ومن يحمل عبء الدم أكثر، هو الأجدر بالقيادة. وبناء عليه يجب أن نقول اليوم بالفم الملآن: تحية لكتائب عز الدين، ولسرايا القدس، وكل من يقاتل في غزة اليوم. لقد رفعتم رؤوسنا عالياً، ولكم كل الحب والدعم والتقدير.
إبراهيم علوش – الكاتب الفلسطيني *
* الكاتب الفلسطيني مجلة فصلية تصدر عن الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في دمشق، حيث صدر آخر عدد منها قبل أيام.