بيان نيويورك: خدعة قديمة بأدوات بائسة ومهينة

محمد صبيح
باحث في الدراسات الاستراتيجية والدفاع

لم يكن بيان مؤتمر “حل الدولتين” الأخير في نيويورك سوى إخراج سياسي رديء لخيبة أممية (إنسانية – إسلامية – عربية) مزمنة. تسعى من خلاله بعض الدول لمسح عار تخاذلها بصياغة حروف على ورق، لا تساوي حتى الحبر الذي كُتبت به.

هذا البيان، الذي ترأسته فرنسا والسعودية، وشارك فيه عن العرب والمسلمين: مصر، وإندونيسيا، والأردن، وقطر، والسنغال، تركيا، وجامعة الدول العربية، لم يكن إلا محاولة رخيصة لإحياء أوهام دولة لا وجود لها على الأرض، ولا إرادة حقيقية لديهم لفرضها. وفي المقابل، يُطلب من المقاومة الفلسطينية نزع سلاحها، في خيانة مكشوفة لكل مبادئ العدل وحقوق الإنسان، وشرائع السماء والقوانين الدولية.

هذه الدول التي لا تخجل من مواقفها المخزية، وقد تركت غزة تُقتل خنقًا، ثم سحقًا، ثم جوعًا وعطشًا، لم تتحرك لأجل الطفل الجائع، ولا الأم الثكلى، ولا الشيخ المدفون تحت الركام، لكنها فجأة انتفضت لتدين عملية “طوفان الأقصى”، وتطالب المقاومة بإلقاء سلاحها! وكأن بريطانيا المشاركة في هذا المؤتمر ليست هي من أقامت الكيان الصهيوني قبل نحو ثمانين عامًا على أجساد الأبرياء وأراضي منهوبة من أصحابها الحقيقيين تحت تهديد السلاح! وكأن فرنسا التي ترأسه ليست هي التي زودت الكيان بالتكنولوجيا النووية لفرض الهيمنة والردع على المنطقة في الخمسينات من القرن الماضي، وزودته بكل الأسلحة والجهود الاستخباراتية خصوصا في هذه الإبادة القائمة!
وكأن هذه الدول مجتمعة قدمت شيئًا لهذا الشعب الصامد، ولو حتى شربة ماء، في مواجهة الإبادة والتجويع الذي يُبث على الهواء مباشرة، ويشاهده مليارات البشر في العالم.

لقد تكشفت الحقيقة المُرّة: هؤلاء لا يريدون إنهاء الحرب، بل يريدون إنقاذ “إسرائيل” من مصيرها الأسود وعزلتها الدولية، عبر مسار سياسي ملغوم، يستبدل الجريمة بصفقة، والمجزرة بدولة موهومة “منزوعة السلاح”. وكأن المشكلة هي في السلاح لا في الاحتلال، وكأن الخلاص من المذابح يتم بتجريد الضحية من وسائل دفاعها! إنهم يريدون إيهام الفلسطينيين بأن ثمن الإبادة دولة من ورق، مقابل تسليم ما تبقى من كرامتهم ومقاومتهم.

هؤلاء لا يطلبون فقط نزع سلاح المقاومة، بل يطالبون بأن يُسلَّم إلى سلطة لا تستطيع حماية شارع في رام الله، ولا تملك إرادة القرار، ولا شرعية الوجود. سلطة ترعى التنسيق الأمني مع الاحتلال، ويعتبرها الاحتلال شريكًا وظيفيًا في إحكام السيطرة على الضفة الغربية. فهل يُعقل أن يُسلِّمها شعب مقاوم سلاحه؟! سلاحه الوحيد؟! وما هي “المكافأة”؟ “وعدٌ بدولة”؟! وأي دولة؟! دولة مقطعة الأوصال، بلا سيادة، بلا معابر، بلا حدود، بلا جيش، وبلا كرامة!

إن من يطرح هذا الطرح -عن وعي أو عن غباء- لا يختلف كثيرًا عن أولئك الذين صاغوا “صفقة القرن” المأفونة. لكن هذه المرة يُعاد إنتاج الصفقة بأيدٍ عربية وإسلامية، وبرعاية فرنسية-بريطانية، بينما تمثل أمريكا دور “الرافض المؤقت” في مسرحية هزلية مكشوفة، هدفها الحقيقي إطالة أمد الضغط على الجميع للقبول بما كان مرفوضًا بالأمس، وتقديمه اليوم على أنه “فرصة تاريخية”.

الواقع اليوم لا يُصاغ في نيويورك، بل يُصاغ تحت الأرض وفوقها في غزة. من يملك السلاح والميدان والشعب، هو من يرسم مستقبل فلسطين. أما تلك المؤتمرات والبيانات، فهي فقاعات فارغة لا تغير شيئًا من معادلات الصراع.

وإن كانت واشنطن، وتل أبيب، وأوروبا، قد فشلوا جميعًا في فرض خطة واحدة من خططهم في غزة، فهل يُعقل أن ينجحوا اليوم في انتزاع سلاح حماس -الذي مرغ أنف “إسرائيل” وأمريكا والغرب في الأرض- ببيان مؤتمر؟!

يخطئ من يظن أن حماس معزولة دوليًا؛ بل العزلة الحقيقية هي لتلك الدول التي فقدت احترام شعوبها، وسقطت أمام لحظة الحقيقة. المقاومة الفلسطينية، رغم الحصار، تملك رصيدًا شعبيًا عالميًا حقيقيًا، وقد أثبت “طوفان الأقصى” أن هذا الرصيد أكبر من رصيد كل الأنظمة الفاشلة مجتمعة.

لذلك، فإن كل جهد لا يرتكز إلى ما تحقق على الأرض من صمود وإنجاز وتضحيات، لا قيمة له. وكل “حل” لا يحترم الدم الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، فهو إعادة إنتاج للخذلان.
الحل الحقيقي يبدأ بالاعتراف بمن ضحى، لا بمن تواطأ. أما نزع سلاح المقاومة وتسليم القرار لمن كان جزءًا من المؤامرة، فلن يكون سوى خيانة جديدة، لن يسمح بها الشعب، ولن تنجح بفرضها أي قوة على وجه الأرض.

ومن المهم أن يدرك أولئك الغثاء، أن سلاح المقاومة أُنتج بعقول وسواعد أبنائها، فهو ليس كالسلاح الذي تشترونه بمقدرات شعوبكم لتمنحوه لأعدائكم. هذا السلاح هو علم، ومعرفة، وتجربة حقيقية بمنطق القوة، وطريقة حيازتها وإدارتها واستخدامها. وهذا ما لا يمكن نزعه لا من يد المقاومين، ولا من عقولهم، ولا من قلوبهم.الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

محمد صبيح
باحث في الدراسات الاستراتيجية والدفاع