تثبت التجربة اللغوية أن الكلمات التي تشترك فيما بينها في البنية فإنها تشترك فيما بينها في المعنى بوجه من الوجوه. فالاشتراك في المبنى اشتراك في المعنى. وإنني لم ألقِ بالاً يوماً ولزمنٍ طويل إلى الفرق والتشابه بين الكتابة والكآبة، إلا عندما عايشت الأمر السنة الماضية حين أصبت بالكآبة لمجرد أنني عدت إلى الكتابة بعد انقطاع طويل.

قد يستغرب البعض وقد يفهمني آخرون، وهو الأمر الذي يدعوني إلى التفريق بين كتابةٍ وأخرى. فلربما نقل التقارير وسرد الأحداث أو كتابة ما يطلبه الآخرون ليس هو ما أتحدث عنه، إنني أتحدث عن الكتابة التي تخرج فيها أنفاسك ونفسك وتضعها في سطور. ألم ينتبه أحدٌ أن القلم والتقليم من جنسٍ واحدٍ أيضاً؟

إن كتابتك لرأيك في مسألةٍ ما هي كتابةٌ لشيء حي ينبض فيك، لشعور وإدراك وإحساس حول قضيةٍ ما، كأنك تنفخ الروح في الورقة، فمن نظر إليها جاءه ذات الإحساس، فكيف يمكن أن تكون المسالة في غاية السهولة؟!

لربما أن تشابه البنية بين الكتابة والكأبة تحذير، وأن الدخول لمعترك الكتابة يبدأ بطريقة مشتركة هي ذاتها طريق الكآبة، والكآبة تبدأ أيضاً بشعور وإدراك وإحساس حول قضية ما، حتى يُفتح لك الخيار بين حرفين، حرف التاء أو الهمزة ليقرر لك إلى أي طريق ستذهب، والعجيب أن الطريقين متشابهان جداً برغم اختلاف مكان نطق حرف، فكلاهما من الحروف الشديدة التي تحبس الهواء، إلا أن التاء مهموسة يخرج معها هواء لطيف، في حين تخنقك الهمزة تقطعك. ولربما هذا سبب امتدادها في كلمة الكآبة، لأن الطريق لا تنتهي باختناقك.

ربما لم تلحظ قبل ذلك أن القرآن والإنجيل قد بدآ بحرف الباء، ولذلك يفسر الباء على أنه انشطار وبداية للوجود… أليس هذا ما تفعله شفتاك حين تنطق الباء، يلتحمان ليبدآ نطق الحرف ثم ينشطران ليخرج الحرف إلى الوجود. ويكتمل خروج الكتابة والكآبة إلى الوجود بحرف الهاء الذي يبعث الهواء منفتحاً من الفم، وكأنها مشاركة وبث للوجدان المكتوب أو الكئيب.

خيط رفيع يفرق بين الكآبة والكتابة، وهو الشدة التي إما أن تقطعك كالهمزة، وإما نفسٌ ضئيل كأنفاس اللحظة الأخيرة يسرّي عنك. وأحياناً تكاد تقتلك انقطاعات الأنفاس من الكآبة حتى تخرجها على الورق، وأحياناً فإنك تختار حراً أن تظل حياً بنزر يسيرٍ من وجودك لتكمل به حروفك.

بهذا أقول، ليس كل كتابة هي كتابة، بعضها مجرد تدوين أو نقل، وبعضها نفخٌ للروح. وليس كل كآبة مرض، بل هي بوابة من يعبرها يعود محمّلاً بما يعجز الصمت عن حمله.

فلا يكتب من لا يطيق ألماً.

آدم السرطاوي – كندا