في ظلّ لحظة فلسطينية استثنائية، يتعرض فيها شعبنا لأبشع جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وفي وقتٍ تتعاظم فيه أدوار نهج المقاومة، وتُختبر فيه القوى السياسية والنخب والمجتمعات والمؤسسات، ومن ذلك المجتمع المدني الفلسطيني، والتبعات الملقاة على عاتقه خلال مساره في العقود المنصرمة، وبشكل خاص خلال جريمة الابادة وهنا تبرز أسئلة جوهرية حول دور المجتمع المدني الفلسطيني:
هل كان وفيًا للدور التاريخي المعول عليه؟ هل ظل صوتًا مستقلًا ومنحازًا للشعب؟ وبالتالي هل تم احتواؤه في بيروقراطية المشاريع ومنظومة التمويل المشروط، والتنافس غير المبدئي، وغياب التجديد والديمقراطية في معظم مؤسساته؟ وهل تم ترويضه من قبل السلطة الفلسطينية وغدا غير قادر على مواجهتها؟ وكيف تعاطى مع الأنظمة والقوانين التي فرضتها السلطة لإحكام قبضتها على المجتمع المدني؟ وإذا كان هناك مجموعة من العقبات الذاتية المتعلقة ببنى مؤسسات المجتمع المدني او كانت من البيئة التي تعمل فيها هذه المؤسسات؟
وهل يمكن تجاوز العقبات التي تحول دون هذا الدور؟ وهل عانت كثير من مؤسسات المجتمع المدني من الفساد الواضح أو المغلف؟
وماذا يعني وكيف يكون المجتمع المدني فاعلًا في زمن الإبادة؟
حدود المجتمع المدني:
المجتمع المدني ليس مجرد منظمات غير حكومية، بل هو كل مساحة بين الدولة والمجتمع، ويمتد من العشيرة إلى الحزب السياسي غير المشارك في الحكم، وكل ما بينهما من مؤسسات خيرية او ثقافية او دينية او جماهيرية … الخ
هو الفضاء الذي تنشأ فيه المبادرات، وتُبنى فيه علاقات التضامن، وتُعبّر فيه الأصوات المستقلة عن نفسها.
الخصوصية الفلسطينية:
يختلف المجتمع المدني الفلسطيني عن نظيره الأوروبي (وهو النموذج الذي يتم الاحتذاء به رغم كونه جزءًا من منظومة الاستعمار السابقة الذي تقلده اجمالا المجتمعات العربية).
في أوروبا، نشأ المجتمع المدني بالتوازي مع قيام الدولة الحديثة، وكان نداً لها ورقيباً عليها، وناضل في مجالات الحقوق العمالية والحريات والعقد الاجتماعي وصارع السلطة وانتصر احيانا وانكفأ اخرى، لكنه لم يتراجع عن المهمة التي نشأ من اجلها وهي التصدي لهيمنة الدولة او تجاوزها للعقد الاجتماعي، وكان شريكا ايضا في معارك التحرر الوطني الذي مرت به كثير من الدول في طريقها لإنجاز الاستقلال السياسي الشكلي.
أما في فلسطين، فقد ارتبط المجتمع المدني منذ نشأته بالحركة الوطنية وتحت رعايتها او وصايتها قبل إقامة الدولة، سواء من خلال منظمة التحرير الفلسطينية أو القوى السياسية.
• تأسست الاتحادات الشعبية الفلسطينية (المرأة، المعلمون، العمال، الفلاحون … الخ) لأداء وظيفة سياسية وهي تعزيز الهوية الوطنية وتمثيل القضية والحقوق الوطنية والدفاع عن هذه الحقوق لا بهدف الدفاع عن مصالح وحقوق القطاعات القطاعات التي يفترض أن تمثلها وخوض النضالات المطلبية دفاعا عن هذه الحقوق.
• غابت الانتخابات والتمثيل الحقيقي عن قيادة هذه الاتحادات وحلت مكان ارادة الجمهور ارادة القوى السياسية لصالح التمثيل السياسي ونظام الكوتا والمحاصصة الفصائلية.
• سيطرت الأحزاب على النقابات والأطر القطاعية، مقدمة مصالحها الفصائلية على المصالح المطلبية القطاعية، وتجلى ذلك بوضوح في نضالات القطاعات المهنية والاجتماعية كإضرابات المعلمين، والضمان الاجتماعي، والمهندسين.
• حينما تعارضت مصالح القطاعات مع مصالح الفصائل، قُدمت مصالح التنظيمات والفصائل على حساب مصالح وقضايا وحقوق ومطالب القطاعات الجماهيرية.
• هذا النهج عمّق الفجوة بين الشارع والنظام السياسي الفلسطيني، وغابت الفصائل والأطر القطاعية عن قضايا مثل إضراب المعلمين والدفاع عن الحريات، بل دعمت السلطة ضد الحراك الشعبي ومن أمثلة ذلك اغتيال نزار بنات، إلغاء الانتخابات 2021 والتغول الامني الذي يسم الحياة السياسية الفلسطينية راهنا حيث يقبع مئات من المناضلين والمعارضين في سجون اجهزة امن السلطة ويسلمون كل أصناف التعذيب وقضى عدد منهم خلال التعذيب.
• أضيف إلى كل هذا كيفية تعاطى المجتمع المدني مع الأنظمة والقوانين التي شرعتها السلطة لتعزيز هيمنة الأخيرة عليها ورضوخ المؤسسات لهذه القوانين وفشلها في توحيد موقفها في التصدي لهذه القوانين التي أدى تطبيقها لاحتواء دور المجتمع المدني واضعافه.
مواجهة واقعية:
واجهت مؤسسات المجتمع المدني القاعدية (الجمعيات الخيرية والخدمية والحقوقية والصحية والتعليمية) واقعًا معقدًا في ظل الظروف التي رافقت وتلت
انشاء السلطة الفلسطينية:
• بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، شهدت الأراضي الفلسطينية تدفقًا كبيرًا للتمويل الخارجي للمؤسسات كبعض ثمار السلام المزعوم، ما أدى إلى درجة عالية من الاستقلال لهذه المؤسسات عن الأحزاب والقوى التي أسستها والتي كانت ترعاها، بل ربما مثلت احيانا ضغطا على الأحزاب لأنها توفر احيانا فرص عمل لكوادر وعناصر هذه القوى وأحيانا فتاتا من التمويل لهذه الفصائل، لكنه من جانب آخر خلق تبعية جديدة لشروط المانحين التي تراوحت بين طبيعة المشاريع وصولا إلى اشتراطات ذات صلة بالتمويل الذي يتعلق “بالإرهاب “.
• لا يمكن تعميم ما تذهب اليه على جميع المؤسسات، فبعضها ظل ملتزمًا وطنيًا ومستقلًا، ولكن في الغالب، عانت هذه المؤسسات من ضعف في قدرتها على أن تكون بديلًا للأحزاب التي تراجع دورها أو أداة صدّ لسياسات السلطة المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والحريات.

تراجع الدور:
• طبيعة التمويل: التمويل سياسي مشروط، موجه جغرافيًا وموضوعيًا وبنيويا، يبتعد عن قضايا الإنتاج المتعلق بتعزيز الصمود والتوجه للانفصال عن الاقتصاد الاسرائيلي، ويركز على المناصرة والخدمات والترويج والتمكين.
• التنافس على التمويل: خلق بيئة سلبية بين المؤسسات المتشابهة وسهل فرض أجندات الممولين وشروط تمويلهم.
• الفساد: عانت كثير من المؤسسات وبسبب الترهل وغياب الرقابة من انتشار الفساد الواعي والممنهج وغض نظر الممولين والسلطة عنه، ما قوّض مكانتها المجتمعية، وخلق تواطؤًا غير مباشر مع السلطة وكأن كلا يغطي على الاخر.
• غياب الديمقراطية والتجديد: حيث تحولت مؤسسات كثيرة إلى ملكية عائلية أو شخصية مع غياب التغيير القيادي الحقيقي اذ كثير من المؤسسات تأسست وعرفت بأسماء بعض المديرين الذين ظلوا متربعين على هرم قيادتها لأكثر من 20 سنة شانهم شأن القادة السياسيين والأمنيين.
• ارتفاع الرواتب: لم تراع فاتورة وسلم الرواتب المقارنة مع مؤسسات القطاع الخاص او الأونروا او رواتب الموظفين الحكوميين وفي بعض الحالات، وصلت رواتب المديرين إلى أضعاف رواتب الوزراء، مما عمق الفجوة بينها وبين المجتمع الذي يفترض انها تتصدى لتمثيله.
اجمال هذه العوامل أدى الى ترويض معظم مؤسسات المجتمع المدني سواء تعلق الأمر بعلاقتها بالشعب والجماهير وعزلتها عنه، فمن حيث علاقتها بالشعب تكاد تغيب عن معظم مشاريع مؤسسات المجتمع المدني السمة الإنتاجية لهذه المشاريع واقتصرت هذه المشاريع على التمكين والمناصرة والترويج الإعلامي، في حين غابت الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية والعمالية عن اي دور يتعلق بالهم العام، واقتصرت على النضال المطلبي في وقت تتزايد القضايا والهموم العامة والوطنية المشتركة سواء تعلق الأمر فيما له صلة بالمواجهة مع الاحتلال والدفاع عن الحقوق الوطنية كالأرض وقضايا الأسرى والاستيطان واخر فصولها المستمرة العدوان الحرامي على قطاع غزة وجريمة الابادة الجماعية المتواصلة منذ عشرين شهرا، او تعلق الأمر بالحقوق الاجتماعية المتعلقة بممارسات السلطة التنفيذية واستحواذها على جميع السلطات التشريعية والقضائية والتفرد والدكتاتورية وتعطيل الارادة الشعبية ، ففي هذه القضايا لم نشهد تحركا من اية نقابات او تنسيق فعاليات بشكل مشترك تترك تأثيرا او ترفع صوتا وللأسف ظل الجميع شهودا على ما يجري وطنيا وديمقراطيا واجتماعيا .
التحديات البنيوية الراهنة
يواجه المجتمع المدني الفلسطيني اليوم تحديات كبرى سواء على الصعيد البنيوي او على صعيد واقعها ودورها ومنها:
• الاحتواء السياسي: إدماج كثير من المؤسسات ضمن أجندات السلطة أو ارتباطها السياسي معها وهذا بدوره بفقدها اية استقلالية.
• التمويل المشروط: التمويل المرتبط بالسقف السياسي الدولي الذي يصر على وسم نضال الشعوب بالإرهاب مع كل ما يترتب عليك من تقليص لحرية العمل في ظل عدم المواجهة مع هذه التوجهات وتأثيره على استقلالية القرار والدور الوطني.
• فقدان الصلة بالقاعدة الشعبية: بسبب الانفصال عن هموم الغالبية الواسعة من ابناء والجمهور الفلسطيني لم تنجح مؤسسات المجتمع المدني ولا الاتحادات الشعبية من الانخراط في المخيمات والمجتمعات المهمشة، واقتصرت لأسباب لها صلة بطبيعة المشاريع بالمجتمعات المدنية التي قد تكون الاقل حاجة إذا ما قورنت بالريف والمخيمات.
• انخراط بعضها الى في مشاريع استيعاب وتطبيع: حيث أصبحت بعض المؤسسات تروج لأطروحات “السلام” والتطبيع بدلاً من دعم التحرر والمقاومة وهي تشمل عددا وافرا من هذه المؤسسات والاتحادات الشعبية ويظل الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين النموذج الأبرز في هذا المجال.
مسؤولية المجتمع المدني في زمن الإبادة:
لسنا اليوم في مرحلة سياسية عادية، بل في لحظة اختبار وجودي وكرامة وطنية ليس فقط على مستوى النظام السياسي والسلطة والمنظمة بل هي تطال الجميع افرادا ومؤسسات واتحادات وجمعيات ونقابات وهذا يفرض على الجميع مراجعة الدور والمهمات التي علية التصدي لها وبأية ادوات يمكن تحقيق نجاحات او اختراقات. *وبالتأكيد المجتمع المدني بمفهومه المحدود مطالب بإعادة البوصلة نحو النضال الشعبي، لا الاكتفاء بإدارة الأزمة من خلال:
• الخروج من منطق المشاريع إلى منطق ومعيار مدى ارتباط هذه المشاريع بتعزيز الصمود الفعلي للشعب الفلسطيني على ارضه في مواجهة مؤامرات التهجير، ومع ان فرصا كثيرة قد اهدرت خلال العقود الماضية إلا ان البدء بهذا ايضا ممكن كهدف رئيس في هذه المرحلة.
• تبني خطاب سياسي واضح لا لبس فيه منحاز للشعب والحق الفلسطيني، يتجاوز الحياد أو التوافق مع السقف السياسي الدولي الذي ينخفض باستمرار مستجيبا للضغوط التي تمارسها الدول الكبرى الداعمة للعدوان ومحاولة التساوق مع الوقائع التي يفرضها الاحتلال على الارض.
نحو مجتمع مدني تحرري وشعبي:
• ان استعادة دور المجتمع المدني كرافعة للتحرر الوطني يتطلب اعادة النظر في توجهات وبرامج مؤسسات المجتمع المدني وربطها بالهدف الرئيس تعزيز الصمود والقدرة على مواجهة مشاريع الاحتلال.
• تعزيز العلاقة بين النضال الوطني المحلي والتحركات الشعبية العربية والإسلامية والدولية الداعمة لنضال شعبنا وحقوقه وتجنب الانكفاء على البعد المحلي واهمال العلاقات العربية والإسلامية والدولية.
• وضوح الرؤية في مؤسسات المجتمع المدني لتكون رديفا لنهج مواجهة سياسات الاحتلال تجاه الارض والإنسان الفلسطيني والدفاع عن وجودنا وحقوقنا الوطنية والتركيز على العمل الشعبي والمبادرات القاعدية والاتجاه بالجهود نحو انشاء وتعزيز اللجان الشعبية على امتداد المناطق الفلسطينية وفق تخصصاتها وبما يراعي استثمار كل الامكانيات المتاحة.
• إعادة الاعتبار لقيمة ومفهوم العمل التطوعي التي اعتمدتها المؤسسات الاهلية الفلسطينية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وبما يعزز الانتماء الوطني والجمعي في خدمة المجتمع بعيدًا عن منطق العمل المأجور.
• العودة إلى فكرة المجتمع المنظم والمرتبط بقواعده الشعبية، لا المجتمع المؤسسي المنعزل وإحدى أدواته الرئيسة تجربة اللجان الشعبية التخصصية التي كانت أحد إبداعات الانتفاضة الكبرى 1987.
الخاتمة:
في زمن جريمة الإبادة الجماعية، لا حياد، إما أن يكون المجتمع المدني بمؤسساته وجمعياته في صف الشعب ويتصدى لهمومه وتعزيز صموده والاتجاه نحو الانفصال عن الاحتلال والخلاص منه ونحو تعزيز التنظيم الشعبي من خلال اللجان الشعبية التي تتطلبها وتتناسب واحتياجات الظرف الراهن، أو يتحول إلى شاهد زور على ما يجابه الوطن من تحديات ويعمق عزلته عن هموم وتحديات الوطن والشعب ويحث السير نحو نهايته لصالح أشكال لا بد أن يفرزها الواقع.
المناضل و الأسير المحرر عمر عساف