في غزة، يَتَخطّى الحصار مسألة حرمان الناس من الغذاء والدواء، ليُصبح مشروعًا منهجيًّا يُفكِّك الذات ويُعيد تشكيل العلاقة بين الجسد والزمن والمكان. العملية تتوغّل في تفاصيل الحياة اليومية، فتزرع إرهاقًا داخليًّا يمتدّ أجيالًا.
حين تُغلَق المعابر يختنق الأمل، وعند انقطاع الوقود تتعطّل مرافق أساسيّة، ويجد المرضى أنفسهم أمام علاج بعيد المنال. هذه الخطوات البطيئة تُرسِل إشارة مستترة: الإنسان مُحاصر داخل جلده قبل حدود مدينته، والاختناق النفسي يسبق الاختناق المادي.
الذاكرة الجماعيّة تتكوّن تحت ضغط الانتظار؛ أمّهات يحملن وجع الصغار، وآباء يبيتون وهم يُفكِّرون في كيفية توفير رغيف اليوم التالي. الأطفال يكبرون في فضاء يشبه غرفة توقّف فيها الزمن؛ يتكرّر المشهد حتى تُصبح الحركة إلى الأمام مجرّد خيال، فيما الوجوه تخفي خلف تماسكها صدوعًا عميقة.
مع ذلك، الحصار يَستدرج أشكالًا جديدة من المقاومة. النفس المُنهَكة قد تترنّح، غير أنّها تُعيد بناء أدواتها كي تصون المعنى والكرامة. بقاء الذكرى حيّة، وابتكار أساليب يوميّة للبقاء، يُنتجان مقاومة تتخطّى السلاح نحو صون الروح.
معاناة غزة تشقّ طريقها عبر شاشات العالم الرقمي، فتفضح هشاشة نظامٍ دوليٍّ ادّعى رسوخًا أخلاقيًّا. كلَّما طال الحصار، ازداد تأثيره خارج الحدود؛ تتكشّف شقوق في أماكن لم تتعرّض لقصفٍ قطّ، إذ ينتقل الشعور العام بالظلم بين البشر كأنّه موجة جارفة.
من هُنا تبدأ الحرب الأهلية العالمية الأولى: شعوب امتلأت بأصداء الحصار، وقلوب ضاقت بصمت المجتمع الدولي، فتتحرّك في اتجاهٍ جديد. وعيٌ عاطفيٌّ جمعيٌّ ينمو في الظلّ، ويضغط على الأنظمة شرقًا وغربًا، مُمهِّدًا لانهيار الجدران النفسية بين المجتمعات والشعوب.
غزة، عبر هذا الحصار الممتدّ، تُعيد تعريف معنى المقاومة وتفتح باب عصرٍ تتهاوى فيه الحدود بين الألم الخاص والسياسة الكونية، معلنةً عن عتبة صراع عالميٍّ يوشك أن ينفجر.
بقلم خالد دراوشه