منذ أكثر من ستمئة يوم، بدأ فصل غير مسبوق في تاريخ الحروب الحديثة. لم تُفتح جبهات متقابلة، ولم تُخض معارك تقليدية بين جيشين. ما جرى في غزة منذ أكتوبر 2023 لا يشبه ما سُمي بالحروب سابقًا. بل هو مشروع إبادة متكامل البنية، طويل النفس، مصمم على أسس تفكيكية: لا يُراد منه الحسم العسكري، بل محو بيئة المقاومة بكاملها عبر أدوات أشد فتكًا على المدى الطويل.
غزة ليست ساحة حرب تقليدية. بل هدف قائم بحد ذاته. الأرقام لم تعد مجرّد بيانات: عشرات الآلاف من الشهداء، أغلبهم من النساء والأطفال، مئات الآلاف من المصابين، وملايين المحرومين من الماء، الغذاء، الكهرباء، والمأوى. مدارس تحوّلت إلى مقابر. مستشفيات نزعت عنها صفتها الإنسانية وقصفت كما تُقصف الثكنات. أحياء سكنية أُعيدت إلى التراب فقط لأنها احتوت يومًا صوتًا قال: نريد أن نبقى.
هذه ليست نتائج حرب جانبية، ولا أخطاء في التقدير. ما يجري هو عملية محسوبة، ذات بنية هندسية واضحة، تقطع الأوصال وتُجهض كل مظاهر الحياة المدنية. يُفكك المجتمع على مراحل: أولًا بالصدمات المتكررة، ثم بالحرمان الكامل من شروط الحياة، وأخيرًا بالتجويع الجماعي كوسيلة لإعادة هندسة الوعي. طفل يبحث عن كسرة خبز ليس تهديدًا عسكريًا، لكنه في عين المُحتل مشروع مقاومة مؤجل ينبغي قتله مبكرًا.
في علم النفس الاجتماعي، تُعرف المجاعة الجماعية بأنها أكثر من مجرد أزمة غذاء. هي تفكيك للعقل الجمعي. سلاح يُستخدم لتعديل الإدراك العام وخلق انحناء حاد في الذاكرة. حين يُترك مجتمع بأكمله على حافة الجوع، تُعاد برمجة عقول أفراده على مستوى غير واعٍ: يبدأ الإنسان في إعادة تعريف القيمة، الكرامة، وحتى الزمن.
ما يجري في قطاع غزة يتجاوز السياسة. إنه مشروع مخبري كامل يعتمد على عنصر “التجويع كمُدخل سلوكي” لتفكيك القدرة على المقاومة، ليس عبر القمع العسكري، بل عبر تآكل البنى النفسية العميقة للأفراد والمجتمع. تم اعتماد أدوات منهجية دقيقة لهذا التفكيك: حصار شامل، قطع موارد، تحييد المساعدات، وتعطيل شبكات الدعم الاجتماعي. كل ذلك ضمن استراتيجية بطيئة، زاحفة، تُدار ببرود تقني.
في هذا النوع من الحروب، لا يهدف العدو إلى احتلال الأرض، بل إلى خلخلة البنية العصبية للسكان. من يُجَوّع لا ينتج فقط بشرًا جائعين، بل منظومات نفسية هشة تتفكك أمام الحزن المستمر. يُعاد إنتاج الإنسان عبر الألم. ويُعاد تصميم الوعي الجمعي باستخدام معادلات البقاء.
لكن ما لا تدركه النخبة التي تُخطط من وراء الزجاج المضاد للصوت، أن النفس البشرية ليست معملًا مغلقًا. الألم لا يبقى ساكنًا. الصور تتكاثر، تصِل، وتتسرب إلى أذهان بعيدة جدًا عن ساحة الحدث. في عواصم الأرض حيث لا توجد طائرات مسيّرة ولا صفارات إنذار، تُفتح الهواتف وتظهر الوجوه الهزيلة. يتلقى الدماغ هذه الصور ويدخلها دون مقاومة. فلا حاجة لترجمة أو تفسير.
هنا تبدأ المرحلة الثانية من التجربة: العدوى الشعورية.
تُعرّف العدوى الشعورية بأنها انتقال الحالة النفسية من جماعة إلى أخرى، دون تواصل مباشر، بل عبر التعاطف المشروط بصورة أو مشهد أو سردية رمزية. وهذه العدوى لا تنتهي عند حدود التعاطف، بل تمتلك القدرة على تحفيز الأفعال. مشهد الرضيع الذي فقد وزنه الطبيعي يزرع في العقل قلقًا لا يمكن تجاوزه. مشهد الطوابير التي تنتظر الخبز يوقظ في اللاوعي إحساسًا دفينًا بالخطر. كل صورة تُرسَل من غزة تُعيد تشغيل منطقة في الدماغ مسؤولة عن التقمص والانفعال.
العالم تدريجيًا يدخل إلى وضع التهيج الجمعي. ليس من خلال خطابات أو تحريض، بل من خلال مشاعر تتسرب ببطء وتنمو تحت الجلد. هذه التفاعلات لا تنفجر مباشرة، بل تتراكم في لاوعي الأفراد. ثم تأتي نقطة الانكسار.
ما يُبنى الآن في غزة سيصل إلى شوارع نيويورك وباريس وساو باولو وكيب تاون. ليس عبر سفن أو طائرات، بل عبر الانعكاس العاطفي العابر للقارات. تظهر التناقضات في المجتمعات الغربية أولًا: دعم مؤسساتي للعدوان يقابله غضب شعبي يتنامى تحت سطح المدينة. النخبة تكرر رواياتها القديمة، والجماهير تبتعد عنها دون إعلان.
حركات الاحتجاج، التي بدأت بالشعارات، تدخل الآن مرحلة جديدة: المواجهة المباشرة. لأن الصدمة الوجدانية الناتجة عن الجوع الجماعي تؤدي إلى اضطراب أخلاقي لدى المتلقي. حين يُدرك الإنسان أن صمته شريك في المذبحة، يبحث عن طهر نفسي. هذا الطهر لا يُشترى. يُنتزع من الشوارع، من ساحات الاحتجاج، من صدام الأفكار.
وبهذا تُفتح بوابة الحرب الأهلية العالمية الأولى.
هي حرب لم تُخطط لها الدول، لكنها تنشأ من داخل المجتمعات. حرب بلا جيوش تقليدية، بل بجبهات معنوية متحركة. في كل مدينة يتقابل شخصان؛ أحدهما يرى في ما يحدث في غزة “ضرورة”، والآخر يرى فيه “جريمة”. الشرخ النفسي يتحول إلى صراع وجودي. العنف الرمزي يُصبح عنفًا فعليًا.
الشارع، المدرسة، الجامعة، ومكان العمل جميعها تتحول إلى ساحات اختبار.
في هذا السياق، تُصبح غزة بمثابة “الزناد الكوني” لحالة كونية من الاضطراب الجمعي. ليست حربًا تُشن من غزة، بل حربًا تُطلقها غزة دون أن تقصد، فقط عبر ما يُمارَس ضدها.
من زاوية أكثر دقة، يُمكن قراءة ما يحدث كأول تجربة واقعية لتطبيق ما يُعرف في علم النفس الجماعي بـ “نموذج الانهيار الأخلاقي التدريجي”. يُفترض في هذا النموذج أن المجتمع حين يتعرض لصور عالية التوتر تتجاوز قدرة المعالجة النفسية، يبدأ في تفكيك منظومة قيمه دون وعي. وما إن يحدث ذلك، ينقسم إلى طرفين: من يُكمل في الهبوط، ومن ينهض بغضب أخلاقي لتصحيح المسار.
هذا النموذج يتكرر اليوم، عبر الشاشات، ويُعاد بناء العالم على أساسه.
غزة ليست جغرافيا محاصرة، بل معمل نفسي لمستقبل العالم. ومن يظن أن التجربة ستبقى محصورة داخل أسوارها، يُخطئ في فهم طبيعة البشر.
العالم لن يتوحّد بالقرارات، بل بالصدمات. وكل صدمة كبرى بما يكفي تصنع مرحلة جديدة. غزة قد تكون بداية هذه المرحلة. حيث الجوع يُطلق الحرب، لكن الغضب يعيد تشكيل الأرض.
خالد دراوشه