تَقَدَّمَت خطوات نحوهُ مُلْتَفَّة بسواد الفجيعة، وجهها الباكي في حياء وكبرياء تَقْشَعِرُّ له الجبال، صوتها الطالع مُثْقَلا بنعوشٍ تِسْع وأمل صغير في الحياة، أبَى إلاَّ أن يصاحب أنفاس النهايات.
كان لزاما أن تغمره بحبها وحُنوها في ثواني الوداع الاخير، لحظات سماوية ووحي مُنزل كان قولها، رَسَمَتْه دماء الملائكة السعداء، تسع والعاشر يتشبث بما تبقى في جسده الدامي من حياة، أَسَرَّت ونَبْرَتُها قَرْحٌ: “يا حبيبي استودعتك بالرحمان الذي لا تَضيع له ودائع وحَصَّنتك بالحي القيوم الذي لا يموت، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم..”..، صمتت.. رَسَمَتْ على يديه الباردتين قُبْلة مبللة بدمعة حَرَّة، وانبرت تُؤْنِسُ الروح الصاعدة للسماء، بتلاوة مسترسلة من آيات القرآن: “بسم الله بسم الله بسم الله..”.. ياالله.. يا الله، يا رب السماوات والأرض، ويا أم الشهداء وأرملة الشهيد/الحبيب، من أين لك كل هذا الاحتمال والاباء والرضا؟..
يا اختزال غزة العِزَّة، يا كل ألاَءِ غَزَّة، كيف حملت على جسدك النحيف تِسعة؟.. نعش يسبقه نعش ويتبعه نعش فنعش آخر وآخر ولا ينتهي السير الا بعشر، والعاشر فارسك الحبيب..
كيف انْتَزَعْتِ جسدك من دمار سقف مدينة منهكة، حيطانها تطاير وَعْد ورَعْد وغضبْ، وصَبَبْتِ الرُّوحَ تيسيرا لصعود فارسك السعيد حتى لا يكون وحيدا في لفظ البوح الأخير..
يا نجمة غزة المتوهجة وعلى جبينها يرسو حمام مذبوح، يغتسل من دمائه ويطير ليرفرف بجناحيه ويسجد في حضرة دمعك الملتهب..
يا حُرقة غزة ويا لهفة المجبولين على الصبر والرفعة والإصرار الكاسر للريح..
يا ألاء الوَلاَّدَة، يا ألاء الوِسَادَة، يا ألاء الضَمَّادَة، يا ألاء حكمة الله العجيبة وابتلاء الأنبياء، من أنت حتى تُحولي باقي النساء لمجرد أسماء فأنت عِقْدٌ دُرَرٍ لكل ما أنزل الله من أسماء، وأنت المعنى والمبنى والمغزى والعبرة والسناء..
مُدي ضلالك يا ألاء على بحر غزة وترابها وسحابها، وشدي نطاقاتك التسع وعاشرهم جواد ووسام، وانهضي كقصيدة حرة، كأغنية المستحيل، كموسيقى الأشجار في ليل طويل،، لك البهاء ولك الضياء،، ومن كَفَّيْكِ بَعْثٌ للحياة،، وَسِّدَي جرحك لحُضن زيتون غزة وتَدَفَّئِي بعمامة روح الروح، فخيوطها تشد وثاق الرابضين على التلال حملة العشق والبارود، حراس الحدود، هناك يلتقي فدائيين وفي الصدرِ صَبِية عربية، فلسطين القِبْلة والوصية، يستضيئون بشمس ضُفَار ويحملون مفتاح وسلاح وجراح ودفاتر لألاف الأسماء: يحيى، ركان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، سيدين، سيدرا، حمدي ولقمان.. يا آلاء..
هند يحي/تونس