من حق الذين يعيشون يوميّات الحرب “الإسرائيلية” على غزة أولاً ولبنان تالياً، أن لا يروا من الحرب إلا صور الدماء والخراب والتجويع في فلسطين، وأن يكون تعليقهم البديهيّ هو سؤال إلى متى، وربما يمكن تفهم أن يتجاهل بعضهم بداعي اليأس توجيه السؤال عن الموقف والفعل، للحكام والقيادات العربية التي تناصب المقاومة العداء بمن فيهم حكام سورية الجدد، الذين كانوا يتغنّون بمكانة فلسطين والقدس والمسجد الأقصى في أدبيّاتهم، ويتّهمون المقاومة باعتماد التخوين والتشكيك بصدقية عداء هؤلاء العقائدي لكيان الاحتلال، وقد بات هؤلاء جميعاً في ضفة الحديث عن شعار بدنا نعيش وتعبنا، ولا طاقة لنا على مواجهة اسرائيل، وصولاً إلى تسويق التطبيع بلا استعادة أرض وحماية سيادة، وانتهاء بتحميل المقاومة مسؤوليّة حرب الإبادة المستمرّة في غزة ومعها حرب الهيمنة المستمرّة على لبنان، وربما بقدر من التحفّظ يمكن قبول أن يكون السؤال لقوى المقاومة عن الكيفيّة التي سوف تُدير بها مستقبل هذه الحرب المستمرّة ما دامت ترفض خيار الاستسلام وتسليم السلاح؟

رغم صعوبة التفكير بعقل بارد أمام الدماء الحارة التي تنزف في هذه الحرب، لا مفرّ من التفكير بعقل بارد، وطرح السؤال المحوريّ في كل حرب، الذي يستخفّ به الذين يتحدثون عن الواقعية، وهي بنظرهم مقدار قدرة النار والدمار وإسالة الدماء، وهو سؤال المشروعيّة، ومكانة توزّع شرائح الرأي العام في بلدان المواجهة نفسها، وفي العالم تجاه قوى الحرب، الاحتلال والمقاومة، لأن الجواب على هذا السؤال هو الذي يقرّر مستقبل كل الحروب، وببساطة سوف يسهّل أن نلاحظ أن “إسرائيل” التي حازت مشروعيّة عالية لحربها داخل الكيان وخارجه غداة طوفان الأقصى فقدت تدريجياً هذه المشروعية، حتى فقدت كل تأييد حازته في الأيام الأولى لحربها وانخفض مؤيّدو الحرب في الكيان من 94% بعد الطوفان مباشرة إلى 20% اليوم، وتراجع الاستعداد للانخراط في الحرب من جنود وضباط الاحتياط من 96% إلى 34%، بينما انقلب الشارع الغربيّ من مشاعر تأييد أعمى لـ”إسرائيل” وحروبها جرياً على مسار عمره عشرات السنين، ليحل مكانه غضب وسخط ورفض للحرب الإسرائيليّة وتوصيف لقادتها بالقتلة والمجرمين، وضغط على حكومات الغرب والعالم كله لمعاقبة “إسرائيل” وعزلها اقتصادياً وأكاديمياً ومنع بيعها الأسلحة والذخائر.

وهذا المسار الانحداريّ يتعزّز ويتعاظم مع كل يوم جديد تستمرّ فيه “إسرائيل” بخوض حروبها.

على الضفة المقابلة ينظر الفلسطينيّون في غزة رغم الإبادة والتجويع والقتل اليوميّ في عيون مَن يدعوهم للانتفاض ضد المقاومة ويسألون عن البديل الذي يُعرض عليهم، إذا ألقت المقاومة سلاحها، فلا يرون إلا نكبة 1948 مكرّرة، قتلاً وتهجيراً وتشريداً، ويفضّلون الاستشهاد في حرب الإبادة على تكرار النكبة، بل إن الذين كانوا يؤمنون قبل هذه الحرب بفرص الحل السياسيّ والخيار التفاوضيّ سحبوا تأييدهم وصاروا على ثقة كاملة بأن هذا الوحش “الإسرائيليّ” لا يفهم إلا لغة القوة، وأن عليهم الوقوف وراء المقاومة مهما كانت الكلفة حتى فرض حلّ يوقف الحرب ويحفظ السلاح، بينما في لبنان كان ما جرى منذ وقف إطلاق النار قبل ستة شهور تأكيداً على تفاهة الرهان على الحل الدبلوماسيّ، وتأكيداً على أن الدولة لا تستطيع أن تحمي شعبها بقواها الذاتيّة وأن حديثها عن فرض سيادتها بقواها الذاتيّة تنقصه قواها الذاتيّة، التي لا يمثل امتلاك جيش إلا بعضها، لكن ما ينقص هو الإرادة السياسية والسلاح المناسب، وبينما تزداد الشرائح المؤيّدة للمقاومة تمسكاً بها وتماسكاً وراء عقلانيّتها وحكمتها، يزداد بين صفوف المؤيدين للحل الدبلوماسيّ واعتماد الدولة بديلاً للمقاومة السؤال، إلى متى؟ وتبقى قلة قليلة حاقدة على المقاومة ولا تمانع بتسليم لبنان كله للاحتلال تقول بأولوية نزع سلاح المقاومة على مواجهة الاحتلال.

الدماء في الحروب لا تذهب هدراً، ومخطئ من يتوهّم ذلك، فكل الدماء قيمتها في الحقائق التي تصنعها وليس في أمتار الجغرافيا التي تحرّرها أو تتيح السيطرة عليها، وفي هذه الحرب يعود الفضل لنهر الدماء الفلسطينيّ في إنهاء أسطورة الخرافة الإسرائيلية بالسطوة على الرأي العام الغربي، وقد تهاوت كل أركان هذه الخرافة إلى غير رجعة، وهذا تحوّل تاريخيّ ما كان ممكناً تحقيقه بغير هذا الحجم من التضحيات، ومعه عادت القضيّة الفلسطينية محور اهتمام ملايين الناس عبر العالم ينزلون إلى الساحات يهتفون لفلسطين الحرة، وعلينا الاعتراف بأن نقطة الضعف الوحيدة في هذا المسار عربيّة، في الشارع العربي والطلاب العرب والنخب العربيّة والحكام العرب، أليس لافتاً أن تناقش بريطانيا راعية نشوء “إسرائيل” تجميد اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع “إسرائيل” والدعوة إلى معاقبتها بينما الحكومات العربية التي تقيم علاقات مع “إسرائيل”، والبلاد الإسلامية مثل تركيا لا تجرؤ على فعل ذلك؟

ناصر قنديل