بقيت الولايات المتحدة الأمريكية تقاتل في ميدان “الشرق الأوسط” بكل عزمها وبشكلٍ فاضحٍ وواضحٍ لمدّة تزيد عن خمسة وأربعين عاماً، وقّعت فيها معاهداتِ السلام وأقامت القواعد العسكرية وحرَّكت زمرتها من القادة والرؤساء بما يخدم مصالحها، في لوحة رسمتها بدماء أهل المنطقة ونفطهم وخيراتهم. ومع وجود استراتيجيين ومفكرين يخططون للدولة العميقة تحركاتِها المستقبلية، ومع علمنا المسبق بجهلهم التام بالمنطقة وعقيدة سكانها، صدر التقرير الشهير عن المستشار الأمني القومي الأمريكي جيك سوليفان، والذي قام بكتابته قبل أحداث السابع من أكتوبر بفترة وجيزة، تضمَّن هذا التقرير قراءةً بأن منطقة “الشرق الأوسط” دخلت في حالةٍ من الهدوء والاستقرار لم تشهدها من قبل وذلك بفضل السياسة الأمريكية الحكيمة!  ، وهذا يفسر التفاتَ أمريكا إلى المواجهة غير المباشرة مع روسيا بعد أن اطمأنَّت أن المنطقة ذاهبة إلى المزيد من جولات التطبيع وترسيخ قدمي الاحتلال في التراب العربي الأصيل .
ومن الجدير بالذكر أنَّ سوليفان قام بعمل المستحيل لمنع نشر هذا التقرير البعيد كل البعد عن قراءة واقع وطننا العربي ، وليس ذلك بالغريب عن السياسة الغربية المغرورة التي تفترض أن منطق القوة العسكرية باستطاعته أن يغيِّرَ حمض المنطقة النووي العربي العزيز الرافض للاستكبار الغربي.
أما الآن، وبعد الطوفان المجيد، تفاجأ الأمريكي بحقيقة أنه كان يعيش في وهمٍ عظيم فيما يتعلق بنفوذه في غرب آسيا ، فكل دولة تم استهدافها وتدميرها أمريكياً، ظهر منها حركة مقاومة مسلحة ذات خبرة وروح قتالية عالية يحفِّزها الانتقام من وحش الاستعمار الغربي هذا ، وبدلاً من أن يواجه جبهة مشتعلة واحدة أو اثنتين، يرى أنه يواجه جبهاتٍ عديدةً مستعرة تتحيّن فرصة طرده من المنطقة ، وعندما نتحدث عن الوضع الأمريكي، فنحن نتحدث بالضرورة عن وضع الكيان المحتل.
وبالتالي، هل لا تزال هزيمة روسيا والصين استراتيجياً أولوية على لائحة الأجندة الأمريكية، أم أن الحفاظ على الوضع الراهن واستكمال مشهد التطبيع العربي الرسمي هو من يترأس القائمة؟!
هل هناك أيّ سيناريو قد يبقي الوضع كما هو عليه أصلاً بعد كل ما بُذل من الأرواح والجرحى ودونمات الأرض المقدسة المسروقة منذ ستة وسبعين عاماً إلى الآن، في فلسطين وخارجها؟
إن خسارة المنطقة العربية يمثل “كاحل أخيليس” بالنسبة لأمريكا؛ فبخسارتها ينهار الدولار الأمريكي، والمنظومة الاستعمارية، وتُحرَق القواعد العسكرية، ويُطرَد الجنود، ويفقدون السيطرة على أهمّ المعابر البحرية وآبار الغاز والنفط، بينما الخسارة أمام قوة عظمى مثل روسيا والصين ما هي إلا خسارة معركة من معارك عديدة قادمة من الممكن عقدها لاحقاً بعد إعادة تنظيم الصفوف وإعداد الجيوش والتخطيط لمحاولات الانقلاب.
وانطلاقاً من كل هذا، قد يكون سيناريو المواجهة الموسَّعة بين أمريكا والغرب والكيان من جهة، ومحور المقاومة وحلفائها الدوليين من جهة أخرى وارداً وبشكل متصاعد مع مرور الوقت.
عواقب خسارة المنطقة بالنسبة للغرب أعلى بكثير من عواقب مواجهة واسعة ، كما أن القناعة بأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية تمنع حدوث المواجهة هذه قد لا تكون دقيقة بالكامل ، فمن المعروف أن المرشحين من مختلف الأحزاب ينالون من منظمة الأيباك الصهيونية ما ينالون من الدعم المالي والضخ الإعلامي المستمر، وهم لن يحيدوا عن المسار الصهيوني لأي سبب كان ، وإذا ما كان لهم رأي آخر، فالتهديد بفضحهم أو ترهيبهم بالاغتيال السياسي أو حتى الفعلي، كفيلٌ بجعلهم يرتدون إلى المسار الأصلي.
والرهان أيضاً على أن جيش الاحتلال منهكٌ وغير مستعد للمواجهة الموسعة بعد أكثر من عشرة شهور في مواجهة المقاومة الفلسطينية قد لا يكون في مكانه في وجود كل الحشد الغربي العسكري الذي شهدناه خلال الأيام القليلة الماضية ، فقد نذر المستعمر الغربي نفسه لإنقاذ الكيان من نفسه مهما كانت التكلفة، كما نذر محور المقاومة نفسه لإنقاذ فلسطين مهما كانت التكلفة.
ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا العامل الإنساني الذي يلعب الدور الأهم في كل الخيارات السياسية والعسكرية؛ العامل الإنساني الذي يجعل عدواً مغروراً يخطئ تقدير الموقف وتُبنى على قراءته هذه سياسة بلد بأكمله، بل ويتمادى في خطئه ويسير خطوة متهورة تلو الأخرى نحو حتفه المحتوم ، والعامل الإنساني أيضاً الذي يجعل المقاومة تستخدم عقيدتها وذكاءها وحكمتها في إحقاق العدل والعيش بكرامة.
نحن أمام عدو يفشل مرةً تلو الأخرى في تقدير المشهد الإقليمي، ويبني بناءً عليه استراتيجياتِه الغبية، وأمام حركات مقاومة أخذت القرار بأنه لا يمكن التعايش مع هذا الورم الخبيث الذي لا يتوقف عن الانتشار في جسد الوطن ،  وأمام خطين متوازيين لا يلتقيان بأي منطقٍ، نحن نشهد بأمِّ الأعين انهيار المنظومة العالمية على أيدي المجاهدين الشجعان، ونهوض حضارة جديدة عمادها المقاومة والبوصلة الأخلاقية السليمة.

أسيل إبراهيم – الأردن