مقدمة: أزمة هيمنة أم نهاية نظام؟
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، ظنت واشنطن أن العالم بات ملكًا لها، تسيره بإملاءاتها، وتعيد تشكيله وفق مصالحها. لكن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين جاء مفعَمًا بالارتدادات، ليكشف عن تصدُّعٍ عميق في منظومة الهيمنة الغربية. لم تعد أدوات السيطرة التقليدية قادرة على فرض الصمت، ولم تعد الشعوب تبتلع الخطاب كما كان.

في هذا المقال، أخوض في تفكيك هذه الإمبريالية المتجددة – لا من باب التنظير الأكاديمي البارد، بل من قلب الميدان السياسي والمقاوم، من فلسطين وغزة حتى اليمن، ومن شوارع بيروت إلى الحواضر اللاتينية.


أولًا: الإمبريالية تتكلم – كيف يقتلنا الخطاب؟
لم تعد اللغة محايدة. الإمبريالية اليوم تستخدم الكلمات كما تستخدم القنابل. مصطلحات مثل “حق الدفاع عن النفس”، و”الضرورة الأمنية”، و”العملية الجراحية”، كلها أدوات لشرعنة المجازر. فالاحتلال حين يقصف عائلة كاملة في غزة، لا يسمي ذلك إبادةً، بل “استهدافًا دقيقًا”.

منذ بدء عدوان أكتوبر 2023 على غزة، حتى اليوم – 20 نيسان 2025 – لم يتوقف القتل. كل يوم هناك مجزرة، وكل مجزرة تُغلَّف لغويًّا وتُقدَّم للعالم بشكل مقبول. الإعلام الغربي، الذي يفترض به نقل الحقيقة، يمارس دورًا مركزيًّا في التواطؤ. 89% من التغطية تتجنب وصف ما يجري بالإبادة، و94% تحذف “الاحتلال الإسرائيلي” من السياق، في حين تصر على إعطاء شرعية دائمة لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”.

هذا الخطاب ليس عفويًّا، بل هو منتج مخابراتي استراتيجي. أُنتج في غرف سوداء، واستُخدم كجدار حماية لكل جرائم الحرب.


ثانيًا: الاقتصاد كسلاح – من النيوليبرالية إلى الإبادة بالتجويع
من السبعينيات حتى العقد الأول من الألفية، كانت النيوليبرالية هي أداة الإمبراطورية. أما الآن، فقد تطورت إلى نسخة مسلحة: حصار، عقوبات، مصادرة أصول، منع دواء وغذاء. سوريا، إيران، فنزويلا، وكوبا، كلها ميدانات لهذا القتل الاقتصادي.

في إيران، مات عشرات الآلاف بسبب العقوبات على الأدوية. في سوريا، لم يبقَ شيء من النظام الصحي. في فنزويلا، تحولت البلاد إلى مختبر اقتصادي للجريمة الدولية. هذه السياسات ليست مجرد إجراءات ضغط، بل إبادة بطيئة، محسوبة بالأرقام.

وإذا كانت الشعوب تحت الحصار تموت في صمت، فإن مراكز الفكر الغربية تحلل أرقام الضحايا كما لو كانت بيانات اقتصادية، لا أرواحًا بشرية.

ثالثًا: عندما تتحول الحرب إلى نهج دائم – غزة نموذجًا
منذ أكثر من عام ونصف، لم تتوقف الحرب على غزة. هذا ليس “صراعًا”، بل إبادة مستمرة. لا هدنة حقيقية، لا وقف إطلاق نار شامل، لا ممرات إنسانية آمنة. ما يجري هو عدوان استئصالي، تسنده واشنطن ولندن وبرلين وباريس، بأسلحة فتاكة وأموال وتغطية دبلوماسية.

تغيرت مراحل الحرب، من قصف شامل إلى تجويع ممنهج، إلى اجتياح بري متدرج. لكن الجوهر واحد: تدمير كامل للحياة. من جباليا إلى الشجاعية، ومن خانيونس إلى رفح، دمٌ لا يتوقف، وأشلاء أطفال لم تعد تثير الضمير الغربي.

في المقابل، لم تحقق “إسرائيل” أي إنجاز استراتيجي. المقاومة صامدة، الوعي الشعبي يتوسع، والجبهة الشمالية ستعود وتشتعل. وكل ذلك يفاقم من هشاشة المشروع الصهيوني ويكشف عجزه البنيوي.


خاتمة: زمن التحول العالمي – من يسقط ومن يصعد؟
العالم يتغير. لم تعد واشنطن تستطيع فرض إرادتها على كل خريطة. حلف “بريكس” يتوسع، وسائل الإعلام البديلة تخترق جدران الكذب، وشرعية الغرب تتهاوى. فالإمبراطورية التي ادعت الدفاع عن “القيم الإنسانية” انكشفت على حقيقتها: دولة إبادة، وديمقراطية تفوق عنصري.

المطلوب اليوم ليس فقط التوثيق، بل الفعل. من توحيد الجبهات، إلى إنتاج خطاب مقاوم، إلى بناء اقتصاد لا يركع للهيمنة. إنها لحظة الحقيقة، وعلى الشعوب أن تختار: إما أن تُدفن في الركام، أو تكتب تاريخها من جديد.

بقلم: خالد دراوشة