كانت سوريا الأسد قويةً بمقدار ما كانت مشروعاً مقاوِماً، وضعيفةً بمقدار ما كانت نظاماً قُطرياً عربياً، أي أنها كانت قويةً بمقدار ما تجاوزت معادلة القُطر، وضعيفةً بمقدار ما التزمت بها.

تتواطأ 3 سرديات على تسويغ تمدد 3 احتلالات، تركية وأمريكية و”إسرائيلية”، في أراضي الجمهورية العربية السورية، منذ ما قبل 8/12/2024.  وتستند تلك الاحتلالات إلى دوائر نفوذ وحواضن محلية ومشروع سياسي خاصٍ بكلٍ منها، إضافةً إلى عدوانها المباشر، عسكرياً وأمنياً، على الأرض السورية ذاتها، وجوارها القريب والبعيد.  

يتمثل القانون الأول الذي يحكم ظاهرة تمدد تلك الاحتلالات ومشاريعها في أنه قاد ويقود موضوعياً إلى إضعاف الدولة المركزية وتقويضها وتفكيكها، إدارياً وجغرافياً، في الحالة السورية، كما في حالة كل دولة عربية تعرضت أو قد تتعرض له.  

هذا يعني أن العكس صحيح أيضاً، إي إن الدولة المركزية القوية تساهم في صد تغلغل الاحتلالات وتمدد نفوذها، ومن البديهي أن عناصر قوة الدولة هنا لا تتضمن “سحق المواطن”، لكن ذلك مبحثٌ آخر. 

يتمثل القانون الثاني الذي يحكم ظاهرة تمدد تلك الاحتلالات في أنه لا يجري في فراغ، بل في وعاء جغرافي-سياسي تترابط حلقاته وينعكس إضعاف الدولة المركزية فيه على موازين القوى الإقليمية، وعلى أمن الأقطار المجاورة واستقرارها، من فوق الأوهام القُطرِيّة لبعض الذين يتخيلون أن “الحرية”، و”الحكم الرشيد”، و”حقوق الأقليات”، وما شابه، هي شؤونٌ خاصةٌ بقُطرِهم المنفرد بذاته في مساحة ما بين كوكبي عُطارد وزُحل.

يتمثل القانون الثالث الذي يحكم ظاهرة تمدد تلك الاحتلالات ومشاريعها في أن قدرتها على الاختراق والتمدد تستند في جانبٍ منها على تفعيل الانشقاق عن الصف الوطني بخطاب طائفي أو عرقي أو انفصالي، أو حتى فردي ليبرالي، يصبح مدخلاً لاستجلاب “الحماية الأجنبية”، وفي أن نقيض ذلك هو الخطاب الوطني والقومي الجامع الذي لا يمكن إلا أن تجسده دولة مركزية قوية.

يتمثل القانون الرابع الذي يحكم ظاهرة تمدد الاحتلالات ومشاريعها، في سياقنا العربي تحديداً، في أن الدولة القُطرِيّة، دولة التجزئة، أثبتت عجزها عن حل مشكلة الأمن القومي، تماماً كما أثبتت عجزها عن حل مشكلة التنمية الاقتصادية، وبالتالي حل مشاكل المواطن الأساسية.  فلا أمن قومياً، ولا تنمية حقيقية، في قُطر عربي واحد، لأن أقطارنا بالذات، في هذا الجزء من العالم، تحكمها معادلات إقليمية ودولية أكثر تأثيراً من أي معادلات محلية، وخصوصاً في ظل تواجد الكيان الصهيوني في قلب أمتنا.

ويمكن اشتقاق القانون الخامس الذي يحكم ظاهرة تمدد الاحتلالات ومشاريعها في بلادنا من الرابع: فإذا كانت الدولة القُطرِيّة محكومة بمعادلات خارجية أكبر منها، حتى لو حكمتها الملائكة، ثم جاءت رياح العولمة فجعلتها أكثر ضعفاً وقابليةً للتقويض، فإن عبء مواجهة الاحتلالات ومشاريعها في بلادنا ينتقل تلقائياً إلى كاهل الحركة الشعبية العربية بكل مكوناتها، ومن هنا تبرز مشاريع المقاومة عربياً، بمستوياتها كافةً، كخط دفاع لا غنى عنه للأمن القومي العربي.   

وبناءً عليه، كانت سوريا الأسد قويةً بمقدار ما كانت مشروعاً مقاوِماً، وضعيفةً بمقدار ما كانت نظاماً قُطرياً عربياً، أي أنها كانت قويةً بمقدار ما تجاوزت معادلة القُطر، وضعيفةً بمقدار ما التزمت بها.

وينطبق هذا التعميم أيضاً على مصر عبد الناصر، وعلى كل مشروع وطني مستقل في أي قُطر عربي على حدة.  

وفي اللحظات الأخيرة، مرت الخديعة الكبرى من بوابة تسهيل السعي السوري لفك الحصار وللانضواء في المنظومة الرسمية العربية ومسايرة شروطها، من دون الرضوخ لها، وكان ذلك الميلان المحسوب فاتحة الانهيار الكبير.  ولو كان ذلك الميلان، بدلاً من ذلك، مع الانخراط في “طوفان الأقصى” مباشرةً، لجاء الثمن باهظاً من دون أدنى شك، لكنه يظل ثمناً قليلاً مقارنةً بالأثمان الكبيرة التي بدأ دفعها سورياً بعد 8/12/2024، ولما يتوقف بعد.  

في جميع الأحوال، تمددت الاحتلالات الأجنبية ومشاريعها في الميدان السوري بمقدار ما ضعفت الدولة السورية منذ عام 2011.  ويمكن تمييز ثلاثة خطابات هنا، متخادمة وظيفياً، متنافسة ظاهرياً، ينطق كل منها بلسان أجندة أجنبية غير سورية وغير عربية، هي الآتية:

أ – الخطاب التركي الذي يتذرع بأمنه القومي في مواجهة الميليشيات الكردية كي يحتل الأرض السورية ويتمدد فيها، والذي ينصّب النظام التركي “حامياً” و”مندوباً سامياً أعلى” لأهل السنة والجماعة السوريين وغيرهم، والعين التركية على الموصل، بعد حلب، ثم القاهرة، ومكة، في المحصلة.

ب – الخطاب الأمريكي الذي يتذرع بأمنه القومي في مواجهة فلول “داعش”، والذي ينصّب البنتاغون “حامياً” للأكراد، كي يحتل الأرض السورية ويسرق مواردها، بموازاة الخطاب العام بشأن “الدفاع” عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والإقليات إلخ…، والمستعمل عادةً للتدخل في شؤون الجنوب العالمي.

جـ – الخطاب “الإسرائيلي” الذي يتذرع بأمنه القومي كي يضرب ويتمدد استباقياً، بذريعة تواجد إيران وحزب الله سابقاً، ثم من دون تلك الذريعة، بعد زوالها، بل بذريعة “التحوط” من تهديدات غير متمايزة عشية 8/12/2024، بالترافق مع نسج علاقات واسعة النطاق عبر سنوات الحرب مع الجماعات المسلحة جنوبي سورية، ورعاية مشروع انفصالي في محافظة السويداء، زائداً المشروع الانفصالي الكردي في المنطقة الشرقية.

تخادمت تلك الاحتلالات الثلاثة في إضعاف الدولة السورية، ولا نقول “النظام”، منذ سنواتٍ طوال.  وليس صحيحاً أن “النظام السوري” سقط في أحد عشر يوماً، كما يقول البعض، بل تفككت الدولة السورية نتيجة الحرب المتواصلة ومتعددة الأشكال التي تعرضت لها منذ 2011.

والآن، بعدما كشف البنتاغون أن عديد قواته في المنطقة الشرقية لسورية يبلغ 2000، لا 900 كما أعلن سابقاً، يجدر التذكير أن أول من كشف هذا الأمر كان كاتب هذه السطور، الذي أورد مصادر تؤكد أن عديد المتعاقدين العسكريين في المنطقة الشرقية بلغ 3000، غير الـ 900 جندي أمريكي المعلن عنهم رسمياً.

حدث ذلك في المرة الأولى في مادة “الخلل الذي حدث مع مجموعة فاغنز ويفغيني بريغوجين”، في 22/7/2023، في الميادين نت، وفي المرة الثانية في مادة “كيف نقرأ انتفاضة العشائر العربية شرقي سورية؟”، في 8/9/2023، وفي المرة الثالثة في مادة “مدرج الطائرات الضخم في جزيرة عبد الكوري في أبعاده الكبرى والصغرى”، في 31/3/2024.  

ونرى اليوم تدفق تعزيزات أمريكية إضافية إلى المنطقة الشرقية، وإعلاناً أمريكياً رسمياً أن عديدها كان 2000، لا 900، وهذا يعني أنها باتت أكثر من 2000 بكثير. 

أضف إلى التعزيزات الأمريكية تدفق قوات الاحتلالين التركي والصهيوني إلى البر السوري، ومشاريع إقامة قواعد عسكرية لهما من جبل الشيخ إلى حمص وريف دمشق شمالاً وجنوباً، الأمر الذي يزيد من أهمية كل تلك الاحتلالات مجتمعة في صناعة المشهد السوري الراهن.