يخاطر صيادو قطاع غزة ركوب البحر لالتقاط رزقهم من صيد الأسماك لكسب لقمة عيشهم المغمسة بالدم، الذين يعانون من مجاعة حقيقية يتعمد الاحتلال تفشيها بين الغزيين، وبيع ما يجوده البحر عليهم لتلبية احتياجات أسرهم في ظل تعاظم الدمار والقتل للغزيين، وسط نيران زوارق جيش الاحتلال الصهيوني المنتشرة على امتداد طول البحر، فضلاً عن قصفهم واستهدافهم بواسطة المسيرات القاتلة التي لا تفارق سماء غزة لحظة واحدة.

يخوض الصياد رامز أبو ريالة البحر على متن قارب صغير “حسكة ومجداف” ويقف عليه بين الأمواج المتلاطمة ويمسك بيديه عصا التجديف ويدفع بها نحو الأمام، وعند مسافة مئات الأمتار يرمي شباكه المتهالكة في قاع البحر ويتركها فترة زمنية قصيرة، ثم يعود ثانية إلى رمال الشاطئ ، ليبدأ بعدها بسحب الشباك بمساعدة عددٍ من زملائه بمعاناة شديدة، وبعد سحبها قد تكون فارغة بعد تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر وسط ملاحقة ما يسمى محلياً بـ “طراد” الاحتلال الحربي الذي يصوب نيرانه تجاههم، وسط خشية كبيرة على أرواحهم فضلاً عن تدمير قواربهم وإمكانية اعتقالهم.

مجازفة حقيقية بالأرواح

يروي أبو ريالة لـ “بوابة الهدف” تفاصيل المجازفة اليومية التي يخوضها وزملاؤه الصيادون بفعل استمرار الحرب ومنعهم من الصيد من قبل الاحتلال، قائلاً: “مع ارتفاع حدة الجوع الذي يتعمده الاحتلال بحقنا وطول مدة الحرب المستمرة منذ 14 شهراً، قررت المخاطرة بروحي من أجل سد جوع عائلتي المعدومة من أبسط مقومات الحياة وهو الغذاء، ولم يكن لدي سوى هذا الخيار الوحيد للنجاة من الموت جوعاً”، مضيفاً “عندما ذهبت إلى ميناء غزة رأيت دماراً هائلاً وقوارب مقصوفة ومحروقة بفعل صواريخ الاحتلال التي حرقت معظم أدوات مهنة الصيد”.

ويوضح أبو ريالة، أنّ تدمير الاحتلال لقاربه جعله يعود لأدوات بدائية في الصيد، وهي حسكة ومجداف وشبكة واحدة، الأمر الذي يجعل الحصول على كميات أسماك قليلة بالمقارنة بالكميات الكبيرة التي كان يحصل عليها قبل العدوان، مبيناً أنّ الاحتلال قصف ودمر معظم معدات الصيد التي كان يستخدمها الصيادون منذ سنوات.

ولا يتوقف الأمر عند ملاحقة الاحتلال للصيادين في البحر قبل وأثناء الحرب بإطلاق النار تجاههم وتخريب قواربهم ومصادرة بعضها واعتقال عدداً منهم فقط، بل تعدى إلى استهدافهم وقصفهم على البر في ميناء الصيد أثناء محاولاتهم إصلاح شبكاهم وقواربهم المدمرة عبر الطائرات الحربية ومسيراته بدون طيار، ما أدى إلى استشهاد عدد كبير منهم وإصابة آخرين، وفقاً لأبو ريالة.

شح معدات وأدوات الصيد

ويشير الصياد، إلى أنّ أجواء الحرب تعتبر عائقاً أساسياً أمام فقدان الصيادين مصدر رزقهم الوحيد حيث أصبحوا عاطلين عن العمل، إلى جانب عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل “اللنشات”، فضلاً عن النقص الحاد في معدات الصيد وارتفاع أسعار أدوات ومستلزمات إصلاح القوارب والشباك اللازمة للصيد، فعلى سبيل المثال سعر خياط ربط الشباك وصيانتها (100 شيكلاً) أي ما يعادل تقريباً (30 دولار) بعدما كان سعرها لا يتجاوز قبل العدوان الـ (10 شيكل) فقط، فيما شبكة الصيد التي كان سعرها (200 شيكل) أي نحو (60 دولار) تجاوزت الآن (800 شيكل) أي نحو أكثر من (200 دولار).

وبشأن بيع الأسماك التي يصطادونها، يبين أبو ريالة، أنّه “أثناء العمل يأتي إلينا المواطنون وينتظرون الأسماك التي ستخرج مع الانتهاء من سحب الشباك التي رميت في البحر، حيث لأكثر من 430 يوم يفتقدون لمختلف أنواع اللحوم الحمراء والبيضاء نتيجة منع الاحتلال دخولها لهم خصوصاً في شمال قطاع غزة”، موضحاً أنّ “كمية الصيد تكون قليلة جداً وفي بعض الأحيان نادرة تعد على الأصابع، لذلك تكون أسعارها مرتفعة جداً، إذ لا يقل ثمن الكيلو الواحد عن 150 شيكلاً أي ما يعادل تقريباً نحو (50 دولار) وهذا يعتبر مبلغ كبير مقارنة بالأوضاع المعيشية والإنسانية المأساوية التي يعيشونها أبناء القطاع”.

استشهاد 200 صياداً وتكبد خسائر فادحة

وقتل جيش الاحتلال منذ عدوانه في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 200 صياداً، وتسبب بفقدان نحو 4 آلاف و600 طن من إجمالي كمية الإنتاج السمكي بقيمة 20 مليوناً و129 ألف دولار، وفقاً لوزارة الزراعة بغزة.

وتعليقاً على ذلك، قال مسؤول لجان الصيادين في اتحاد لجان العمل الزراعي بغزة، زكريا بكر، إنّ “عدداً محدود جدًا من الصيادين يعملون في البحر على متن حسكات مجداف صغيرة بمنطقة لا تتجاوز الكيلو الواحد برحلات اسمها رحلات الموت”، مضيفاً أنّ “جيش الاحتلال دمر أكثر من 80% من معدات ومراكب الصيادين في القطاع، إذ شملت عمليات التدمير الميناء الرئيسي غرب مدينة غزة، والمراسي وغرف الصيادين ومخازنهم المنتشرة على طول الساحل”.

وأكد بكر، في تصريحات صحافية، أنّ “أكثر من 4500 صياد كانوا يعملون في مهنة الصيد قبل الحرب في غزة، ويمتلكون أكثر من ألف قارب بمحرك، إلى جانب 90 حسكة صغيرة بمجداف، موزعين على 5 مراسٍ وميناء غزة الوحيد في القطاع، وينتجون أكثر من 4 آلاف طن سنويًا من أصناف الأسماك”، مبيناً أنّه لم يتبق في غزة أي “لنش” كبير حتى أن صانعي المراكب الكبيرة جميعهم توفوا، بعد وفاة آخرهم ويدعى عبدالله النجار خلال هذه الحرب.

فقدان مصدر الرزق الوحيد

وأشار بكر، إلى أنّ الاحتلال تعمّد تدمير قطاع الصيد في غزة، وذلك بالاستهداف الممنهج الذي يتبعه منذ أكثر من 17 عامًا، وذلك بالتضييق على الصيادين، وتقليص مساحة الصيد من 20 ميلًا بحريًا إلى 6 أميال، وفي بعض الأحيان إغلاق البحر وحرمانهم من العمل بمصدر رزقهم، إضافة إلى ملاحقتهم بإطلاق النار عليهم لإجبارهم على الخروج من البحر، موضحاً أنّه استشهد قرابة 200 صياداً، وأصيب المئات والبعض منهم قد بترت أطرافهم ليحرموا من مصدر رزقهم للأبد، فضلاً عن اعتقال عدداً منهم عبر عمليات الملاحقة.

ولفت بكر، إلى أنّ الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها المواطنون في القطاع، دفع بعض الصيادين إلى ممارسة مهنتهم وسط الخطر المحدق بحياتهم بحثًا عن لقمة عيشهم، مؤكداً أنّ مهنة الصيد تعد مصدر رزق أساسي للكثير من العائلات في غزة، ويعتبر أحد الأعمدة الرئيسية في الاقتصاد الوطني المحلي.

وبشأن إنتاج الصيد البحري، أوضح بكر، أنّه بلغ قبل الحرب قرابة 5 آلاف طن بقيمة مالية تقدر بأكثر من 21 مليون دولار في العام الواحد، فيما يعتمد الإنتاج السمكي بغزة على مصدريْن أساسييْن: الصيد البحري بنسبة مساهمة 72 بالمئة، والاستزراع السمكي بنسبة 28 بالمئة.

وطالب بكر، بضرورة توفير الأمن البحري للصيادين اللازم أثناء ممارسة عملهم، وكذلك توفير الدعم المادي للصيادين لإعادة عملهم، وتوفير الوقود لتشغيل القوارب و”اللنشات”، داعياً إلى توفير فرص تشغيل مؤقت لتقليل نسبة البطالة بين الصيادين.

الاحتلال حرم السكان من الثروة السمكية

وطبقاً للقطاع الزراعي في شبكة المنظمات الأهلية، فإن مجال الصيد، الذي يُعد مصدر رزق أساسي لآلاف الأسر في غزة، تعرض لتدمير كبير بسبب الاعتداءات العسكرية “الإسرائيلية”، والتي أدت إلى استشهاد 200 صيادًا وتضرر وتدمير 87% من مراكب الصيد، بما في ذلك 96 قاربًا مزودًا بمحركات و900 قارب بدون محرك، كما تضررت البنية التحتية بشكل كبير، حيث تم تدمير ميناء غزة ومرافق الصيد الأخرى، مما خلف خسائر غير مباشرة تُقدّر بحوالي 7 مليون دولار شهريًا، إضافةً لحرمان السكان من الثروة السمكية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الاحتلال اعتقل الأسبوع الماضي ستة صيادين من مياه البحر المقابلة لمدينة دير البلح وسط القطاع، وذلك بعد إطلاق النار عليهم ومحاصرتهم وإجبارهم على ترك “حسكاتهم” ثم احتجزهم على متن البحرية السريعة الخاصة به.

ويستهدف الاحتلال مصادر الغذاء في قطاع غزة، من خلال تدمير الأراضي الزراعية والثروة السمكية وتدمير مقومات الحياة لجعل القطاع غير صالح للحياة، ويأتي ذلك في إطار تكريس تجويع وزيادة الحصار على أهالي القطاع وفرض ظروفاً معيشية قاسية عليهم.

أ.أحمد زقوط-غزة..مقالات مختارة من موقع الهدف