عبر التاريخ، قدمت أوروبا نفسها كحاملة لواء “الحضارة”، لكنها فعلت ذلك على أنقاض شعوب وثقافات بأكملها. في إفريقيا، استعبدت الملايين، أبادت هويات، واستنزفت الموارد في حملات استعمارية وحشية. في الأمريكيتين، قضت على السكان الأصليين وسرقت أراضيهم وثرواتهم، وأخضعت أمريكا اللاتينية عبر سلسلة من الانقلابات والانتهاكات التي تركت شعوبها تحت وطأة الفقر والقمع. في آسيا، فرضت سيطرتها من خلال العنف، واستنزفت اقتصادات بأكملها، وحتى في أوقيانوسيا، واجه السكان الأصليون في أستراليا ونيوزيلندا الإبادة ومحوَ ثقافاتهم.
ورغم هذه الفظائع، تمكنت أوروبا بعد الحربين العالميتين من إعادة تقديم نفسها كمنارة أخلاقية تُعلي قيم حقوق الإنسان والديمقراطية. تعهَّدت بأن “لن يتكرر ذلك أبدًا” وأعادت بناء صورتها لتصبح مركزًا للعدالة والتقدم. لكن اليوم، هذه الصورة باتت في مهبِّ الريح، إذ تسقط القيم المزعومة واحدة تلو الأخرى مع كل جريمة ترتكبها الحكومات الأوروبية أو تتغاضى عنها.
الإبادة الجماعية المستمرة في غزة تجسد هذا الانهيار الأخلاقي. لقد قُتل أكثر من 100,000 فلسطيني نتيجة القصف والحصار والتجويع، في حين تسكت الحكومات الأوروبية أو تدعم هذه الجرائم. تُظهر هذه الممارسات نفاق أوروبا، التي تتبنى خطاب حقوق الإنسان ولكنها تغضُّ الطرف عن الجرائم المروعة عندما يتعلق الأمر بحلفائها. الوعد بـ “لن يتكرر ذلك أبدًا” أضحى شعارًا أجوف، فيما تُرتكب الفظائع بنفس الدعم والصمت الذي سمح بحدوث جرائم الماضي.
ويظهر هذا التناقض جليًا فيما يمكن تسميته مفارقة الاتحاد المنقسم. فرغم تباهي أوروبا بوحدتها السياسية، تكشف الأحداث عن شقاقٍ عميقٍ في المواقف تجاه القضايا الأخلاقية الكبرى. والانقسام بين الدول الأوروبية حول مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يُبرِز هذا الانفصام.
وفي الوقت ذاته، تتجلى أزمةٌ أخرى أكثر عمقًا: تخوُّف أوروبا من حليفها الأكبر، الولايات المتحدة، التي لها تاريخ طويل في التضحية بحلفائها على مذبح هيمنتها. لقد كانت هذه الحقيقة معروفةً لدى الكثيرين، ولكنَّ الجديد أن أوروبا، التي كانت يومًا تُعتبر شريكًا رئيسيًا لا يمكن التضحية به، أصبحت الآن في وضعٍ مماثل. إذا كانت الولايات المتحدة لم تتردد في التضحية بأكثر من 400,000 أوكراني في حربها ضد روسيا، فكيف لها أن تتردد في التضحية بأوروبا نفسها أو حتى بالكيان المحتل الذي لا يخدم إلا مصالحها المؤقتة؟
ما يدعو للتفكير هنا هو أن التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا، الذي تطلب عقودًا لتشكيله، انهار تدريجيًا مع الوقت. فهل يُعقل أن التحالف مع الكيان المحتل سيكون أكثر صمودًا؟ إنَّ وتيرة التحولات العالمية تشير إلى أن هذه العلاقة تواجه نفس المصير. قبل عام واحد فقط، كانت مشاهد مثل “تل أبيب” وهي تحترق، أو ترديد شعارات بلغاتهم تقول “بآلافنا، بملاييننا، نحن جميعًا فلسطينيون” من قِبل الملايين حول العالم، تُعتبر ضربًا من الخيال. ومع ذلك، أصبحت هذه المشاهد حقيقة. فهل يظن أحدٌ أن العلاقة بين أمريكا والكيان محصنة من نفس المصير؟
وفي ظل هذه التحولات، يكشف إطلاق روسيا لصاروخ “أوريشنك” عن انهيار الهيمنة العسكرية الغربية. هذا الحدث، الذي اخترق منظومات دفاع الناتو، لم يكن مجرد استعراض تقني، بل إعلانًا بانتهاء عصر التفوق الغربي. لا تخشى الحكومات الأوروبية بوتين بقدر ما تخشى أن تضحيَ بها واشنطن في مواجهة مفتوحة.
في النهاية، أوروبا اليوم تعيش في تناقضاتها؛ بين القيم التي تدعيها والجرائم التي تدعمها، وبين وحدتها المزعومة وانقسامها الداخلي، وبين الاعتماد على الولايات المتحدة والخوف من خيانتها. كل هذه العوامل تؤكد أن القناع الذي ارتدته أوروبا لقرون، قناع الحضارة والإنسانية، قد سقط نهائيًا، لتظهر الحقيقة القبيحة التي طالما أخفتها.
رندة سيكسيك-أستراليا