لطالما كنت أقول أن المسيطر على حبال الإعلام، هو المسيطر على اللعبة، وهو الذي يحرك دفة الشارع. ببساطة لأن الإعلام يقدم الأجوبة حينما تحتدم التساؤلات الفارقة في عقل الشارع. ويمكن لنا أن نرى هذا المثال واضحاً في سياسات دول الشرق التي نعيش فيها، حيث الحرب المفاهيمية تمتاز بفردانيتها، فهناك طرفٌ واحد يملك الإجابة دون نقدٍ أو معارضةٍ من أحد. وأسميها حرباً لأن الأجوبة المقدمة تنتزع الشارع من هويته وتعارض سياق العواطف الجماهيرية النابعة من تلك الهوية.
يستخدم الإعلام اليوم لعبة خداع البصر، بل حتى السمع والفكر، فترانا ننظر إلى أفظع الجرائم ولا تزال تبررها الكثير من الأمور. نعم تبررها، لأن الغضب وحده لا يكفي أمام هذه الجرائم، فما نراه في غزة من مدنيين محاصرين لا ينامون الليل بسبب أصوات القنابل المتفجرة الحارقة القريبة التي تحرق  كلَّ مَن في الحي وتقطِّعه، كفيلٌ بردة فعل واحدة، وهي النجدة. أما الغضب والكتابة والتجمهر فهي حالات من انضباط النفس اللاإرادي، سببه التبرير.
إن هناكَ شيئاً في عقلنا يستحكم السيطرة على أفكارنا ويقول لنا بأن هناك بروتوكولاتٍ يجب اتباعها لوقف هذه المجازر، وهذه البروتوكولات منوطة بأصحاب البدلات والمناصب الذين يقومون بالزيارات والمصافحات والتصريحات “الخطيرة”، في حين أن آلة القتل مستمرة، ومادام القاتل يلبس بدلة، فهو يملك وجهة نظر فيما يقول، ببساطة، لأن لبس البدلة يدل على التأني والتفكير واحترام الموقف والمكان وهو ما يسمى بالرسمية أو فورمال Formal. وهذه الرسمية تستوجب من الطرف الآخر الاحترام وكبح جماح العواطف لأن الأمور تدار بهدوء وتروٍّ بين البدلات. بالإضافة إلى أن بدلة العدو تُعطينا إحساساً بأنه بعيد المنال عن المحاسبة، وبأنه وإن تمت محاسبته، فيحب أن يتم ذلك من خلال جهةٍ تلبس لباساً آخر يليق بها أن تلقي بالقبض على البدلة!
إن هذا ليس بوصفٍ ساخرٍ لمجازيةٍ ما، وإنما هي حقيقة تأثير الإعلام على اندفاعاتنا وعواطفنا التي نغذيها بما يعرض في وسائل الإعلام.  فما الفارق بين الكيان وقادته وداعش والمنظمات الإرهابية؟! إنها البدلة فقط.
كلنا يعلم بالمعادلة الذهبية التي تشخص الحالة المثالية للحرية الفردية في المجتمعات “تنتهى حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”، أقول: إن هذه المعادلة ليست معادلة للحرية فقط، وإنما هي معادلة لبداية الرأي والرأي الآخر. فرأيك مصون طالما أنه في مساحة حريتك، ورأي الآخرين مُصانٌ طالما أنهم  في مساحة حريتهم. ولكن، إذا تعدت حريتك حدودها لتتخطى بداية حريتي، كأن تسرق بيتي وأرضي أو تكبل يدي وتلجم فمي، فعندها لن أتحدث لأنك نفيتَ حريتي التي هي منبع رأيي، فيسقط الرأي والرأي الآخر، لتُصبح أولويتي هي استعادة حريتي، ومتى ما تمت استعادتها أعود إلى الرأي والرأي الآخر فأستمع لك.
الإعلام الاستعماري يقوم بمهمة واحدة، وهي تغيير الأولويات. فيوهمك بأن الرأي والرأي الآخر مطلوب حتى عند اقتحام حريتك، فيوهمك بأن سرقة بيتك فيها نظر، فهناك شيءٌ اسمه حل البيتين، وكأن حقيقة أن البيت بيتك مشكلةٌ وتحتاج إلى حل! ويوهمك الإعلام بأن تكبيل يديك فيه وجهة نظر أيضاً، فهناك شيءٌ يسمى اتفاقيات على اعتبار أن أساس المشكلة هو المقاومة ورفضك للقيد!
إن الخروج من هذه الأزمة الاستعمارية الفكرية يمكن بالبحث عن السبل التي تكشف هذه الوسائل الإعلامية التي تشوه الهوية والحقيقة بتغيير الانفعالات والعمل على برمجتها بما يحقق أهداف العدو. وأهم هذه السبل من وجهة نظري هي أمران متلازمان يجب تحصيلهما معاً، الشك الملازم للشعور العالي بالحرية. فانعدام الثقة بهذه الوسائل والشك فيها و بمن يقف خلفها هو السلاح الفكري الأول الذي سيجلي لنا الصورة لنرى العقبات الفكرية والنفسية التي تحد من حريتنا. وكذلك فإن رفع الشعور بالحرية يشكل مجساً حساساً عند الإنسان لينتبه من أين تأتيه القيود حتى يوجه شكوكه. وإذا ما انحسرت العقبات النفسية والفكرية التي تقيد الحرية، فتباعاً ستنحسر العقبات المادية التي تحول بيننا وبين تحقيق مصيرنا.

آدم سرطاوي_كندا