في غربتي، هناك في تلك البلاد البعيدة التي لفظتني يد الأقدار نحو شطآنها، تاركاً خلفي كلَّ شيءٍ غير الصور والذكريات.
فأنا لم أصحب معي سوى ثلاثاً، شعوري حينما أرشف فنجان قهوتي فيكتم أشواقي ويقودني إلى نوع من اللامبالاة الغريبة، وجيتاري الذي رافق دربي الطويل وبه تبوح الروح عن مكنوناتها، وحبّي لسورية الذي وهب لهذه الروح الحياة.
لقد اعتدتُ أن أجلسَ كلما طلعت عليَّ شمس الصباح على شرفة منزلي الغريب الكئيب، أتأملُ الشمسَ التي أحبُّ، أبوح بين يديها بحبي وأشواقي فتنقلهما حباّ وكرماً مع عطر الياسمين الفوَّاح إلى أرض بلادي الطَّهور، وهي الوحيدة التي أأتمنها هنا، ثمَّ أعزف على مسمعها النشيد العربي السوري ليبرقَ نورُها الوضَّاء وينير يوماً آخر جديد.

كنتُ جالساً في إحدى الليالي المقمرة في مقهىً من مقاهي المدينةِ اعتدتُ الجلوس فيه لسنواتٍ، وأنا من أوائل السوريين الوافدين إلى هذه المدينة.
لفتتني في ذلك اليوم لكنةٌ فلسطينية أصيلةٌ ينطقها شخص يتسامر مع أصدقائه، ويتبادل معهم أطراف الحديث، و صرتُ أذهب بنظري نحوه فأرمقه بحذرٍ إلى أن لحظني النادلُ فقال لي ” إسرائيلي من 48 شو بدك فيه ” وهنا بدأت كل الخواطر تجول في نفسي و فطنَ لدي الحس الأمني كمواطن عربي، ناهيك عن أن حبَّ سورية دائماً ما يكون مجبولاً بالكره و العداء لكيان إسرائيل، فقلت في قرارة نفسي “شو بدك فيه لا شكَّ أنه جاسوس للموساد”
لكنَّه بادرني بالسلام!!
فرددت ببرودة وقرف حتى لا يستطرد بالحديث معي.

مرة أخرى في يومٍ آخر وفي نفس المقهى، لكنَّه كان وحيداً هذه المرة، وكنت منهمكاً بقراءة مقالٍ عن بلدي الذي تتقاذفه كرات النار وتطاله يد الغُدار والمخربين.
في لحظة ما أنزلتُ نظارتي وتلمستُ عينيَّ وتنهَّدتُ طويلاً وما إن رفعتُ رأسي وإذا به فوق رأسي فعاودني ظني أنه “جاسوس ما في كلام” و قال بهدوء: “مرحبا.. حضرتك من سورية؟” فقلت نعم جافة بشدة، فقال: “تسمحلي أكعد؟” بلهجته الفلسطينية … قلتُ: “شرِّف” فبادر قائلاً: ” شو هالبرد؟ مانا متعودين يا أخي” هززتُ رأسي وقلت في نفسي لنرى ماذا يريد أن يعرف؟
قال لي: “يخرب بيت اللي خرب بلدكم، سورية كانت حلوة” قلت: “خربوها” وارتشفت من فنجاني ثمالته.
فقال: ” بس بتضلها بلدك وناسك مش زينا احنا عايشين ومش عايشين”
قلت له الجملة السورية المعروفة: “الله يفرِّج”.
وسألته: “منين الأخ أردني؟”
قال: ” لا خيا فلسطيني من عرب ال 48″
قلت له:” يعني إسرائيلي ” فلم يجب.
هنا قلت له: ” بس أنتوا عايشين وعين الله عليكم وليكك وين ما بدك بتروح ، نحنا جابولنا الإرهاب يقتل فينا من كل أصقاع الأرض “
قال لي: ” عيشة الكلاب العيشة اللي عايشينها، زي الزفت الله وكيلك ” وسكت هنيهةً ثم قال: ” ولدنا هنيك وأبي وجدي كانوا هنيك شو أعمل “
قلت له: ” ولا شي ” و استأذنته بالانصراف.
مضَت الأيام والمشهد يتكرر وصرتُ أراه بين الحين والآخر في هذا المقهى …
وفي ليلةٍ من الليالي عاودَ الكرَّة واستأذنني بالجلوس وقال: ” شو مالك مش طايقنا”
قلت له: ” أستغفر الله ، لا مو هيك بس مشغول شوي “
قال: ” ما بدي ازعجك بعرف كرهاني ، عربي أنا خيا عربي شو مالك “
فقلت له: ” عراسي أخي ما حكينا شي ” لكنني كنت مصرَّاً أنه جاسوسٌ أو عميلٌ للموساد يتتبعني لسبب ما أجهلُهُ، فأنا لستُ عالماً و لا سياسياً و لا أحمل معي معلوماتٍ خطيرةً أو شيئاً من هذا القبيل، أنا شخصٌ عاديٌّ جداً أحبّ القهوة وأعشق الأركيلة، ولا أحمل معي سوى جيتاري فأيُّهم يريد؟
هنا جالت بعض الأسئلة مخيلتي فبادرته بالقول:” بالله كيف وضعكم جوا؟”
قال: ” اتركها عربك زي العبيد ما فينا لا نحكي ولا نشكي “
فقلت له: ” لا يا زلمة شوهالحكي؟ ” (بلهجتي السورية العامية)
فأجاب: ” الله وكيلك خيا، الله يفرجها علينا وعليكو”.
وبدأنا حواراً آلمني وأحسستُ لوهلةٍ صدق ما يقول،إذ كانت عيناه تغرورق تارةً ولكنها لا تدمعُ، وبدأ يسردُ لي قصصَ التنمُّر والاحتقار، معاناته في المدرسة وفي الطفولة وفي الشارع.
وقال لي جملةً لا أنساها ” العربي والأثيوبي بيتعامَلوا أسوأ من الكلب، بدك تضل مسكر تمّك وحاطط عينك بالأرض” ( أيْ عليك توخّي الحذر والتأقلم وعدم الاعتراض أو التشاكل مع أحد).
و يضيف:” هاي غير الحواجز.. شو بدي احكيلك عن الحواجز، إذا بلاقوا معك نكاشة أسنان بيعملولك قصة، خصوصاً لما تتوتر الأوضاع تحت” و تنهَّد قليلاً ثم تابع قائلاً: ” ما خلصت جامعة إلا اجت العسكرية و هي قصة تانية، طبعاً مجبورين عليها غصباً عنا، بدنا نكسر على أنفنا بصلة و نروَّح يا خيا و نصبر لحتى ننتصر وينكلع هالمحتل “

شوّح بنظره عالياً للحظة ثم عوّده نحوي وتابع ” ذل وخوف وبيعتبروك خاين وما بصير تحكي عربي ولا حدا بيقعد معك ولا بيحكوك والله يا خيا مرات بحس أنا الغريب وهنن أصحاب الدار مع أنو أبوي وجدودي كلن ولاد هالبلد والله مش عارف شو أحكي “.
عاود الحديث متألماً: “بتركب السيارة والله تخاف تسرّع حتى ما يصير معك حادث ويتهموك بمحاولة دعس وتروح فيها أسير الله أعلم قديش”
ثمَّ سكت لبرهةٍ وقال: ” احنا عايشين عالهامش لا حياة ولا احترام وعالسياسة ممنوع نقرب، منخاف من خيالنا… يا ريتنا متنا زي اللي ماتوا كان أريح النا، والله كلب اليهودية الو قيمة أكتر منا و بس تحكي كلمة بتجيلك أمك وأبوك اسكت يا ابني والله بيكتلوك وك احنا ميتين لا الله قبلاننا ولا عبد الله، اليهود بيكرهونا لأننا عرب والعرب بيكرهونا لأننا بإسرائيل و كل يوم منقول الحمد لله مرق اليوم عخير يا رب تسترنا من بكرا.
تلفوناتنا مراقبة وحساباتنا عمواقع التواصل تحت عين الشاباك ويا ويلو يلي بنزل زلة وحدة.
صلاتنا برخصة، دراستنا حياتنا عيشتنا طلعتنا وفوتتنا، ولك حتى نفسنا بدو رخصة الله يهدهم “
تألمتُ كثيراً وأنا أسمع معاناته وأفكر كيف عاشوا كل هذه العقود وبعد ما يقارب ثمانين سنة من النكبة، ولا تزال المعاناة والتمييز موجودة في المدارس والجامعات والمشافي والشوارع وفي كلِّ مكانٍ رغم أن البلد بلدهم، فأيُّ حياةٍ يعيشون.
لم أنبس ببنت شفةٍ ولازلتُ أفكرُ في نفسي أنه إسرائيلي، حمل سيجارته وغادر بهدوء تاركاً خلفه تلك الكلمات التي تفجرت منه وأنا متأكدٌ أنه لايزال يخفي الكثير.

محمد يونس_دمشق