جرعةٌ لدفع الوعي العربي إلى الأمام

ألاحظ أثناء متابعتي لكتابات الناس وتعبيراتهم عن الأزمات الراهنة التي تعيشها البلاد العربية فإنهم إما أنهم يُلقون باللوم على الشارع العربي باعتباره متخاذلاً مهزوماً بسبب أفكاره ومعتقداته وبسبب تخلفه، وإما أنهم يتحدثون بعباراتٍ تتغنى بالغرب ومنجزاته وتقدمه الإجتماعي والحضاري والتكنولوجي، أو عند الحديث عن بعض المشاكل الأخرى المتعلقة ببعض الجمود في مؤسسات الدولة فإنه يتم تشخيص الأمر بانعدام الرقابة وفساد الذمم.

والغريب عندي هو أن الأحداث منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية تفسر السياق والتبينه وتوضح للناس بأن هذه الأزمات الفكرية متراكمة ولها سبب أصيل، ولكن الناس تصر على التعامي عن السبب الأصيل وإرجاء أسباب تلك الأزمات إلى أمور فرعية هي عوارض للأزمة الأصلية. نقول لربما أن الناس لا تقرأ التاريخ ولا تعرف تسلسل الأحداث بشكلٍ صحيح، لكن، ألم يكن طوفان الأقصى كاشفاً بما فيه الكفاية عن حقيقة المواقف الدولية والحكومية، كشفاً يفسر سبب الأزمات والانحطاط بأثر رجعي.

فلمن لم يقرأ التاريخ، فإنه تحت مسمى انحسار الامبراطورية البريطانية وتراجعها، عملت المستعمرة البريطانية على سحب قواتها من حول العالم في السنوات ما بين 1940 و 1949 من الكثير من الدول، وذلك بسبب الإنهاك الذي حصل بعد الحرب العالمية الثانية، وتصاعد الحركات “الوطنية” في تلك الدول مثل الهند وباكستان وميانمار وبروما وسيرلانكا والأردن وغيرها. ولكن هذا الانسحاب لم يكن انسحاباً حقيقياً، فإذا كانت “الحرب خدعةً” عند الأمم، فإن البريطاني يؤمن بأن “السيطرة والحكم خدعة”. فلما انسحبت بريطانيا افتعلت سيناريوهات متعددة تحت مسمى “إستقلال” ونصبت من تثق به ليكون وصياً على الطموحات البريطانية حول العالم. لذلك تجد هذه الدول لا تزال تتبع البروتوكولات البريطانية في المعاملات والدوائر الحكومية ومراسيم الجيش ومناصبه وتشكيلاته وتفرعاته.

منذ ذلك الحين ورؤوس هذه الدول تعمل للمصالح البريطانية والغربية المتحالفة والأمريكية، أو كل من ساهم في تحقيق الإمبريالية الغربية من خلال الانتصار في الحرب العالمية الثانية ومن خلال دعم الاقتصاد بعدها. ولنفهم الصورة بشكل أوضح، فإننا لا يجب أن ننسى أن هذا الانسحاب كان مدروساً، حيث لا تستطيع بريطانيا أن تبقي جيوشها حول العالم لسنواتٍ طوال، فكان لا بد من العودة إلى القواعد وإيجاد بديل، وهو أنظمة تحمل الولاء للبريطاني، وللبريطاني طرقه في حفظ هذا الولاء، وأهم الطرق هو إرساء قاعدة عسكرية متطورة على بوابة العالم “فلسطين” والعمل على تغطية تلك القاعدة بغطاء مدني بدفع الناس إلى الهجرة إلى تل القاعدة بدوافع دينية ومن ثم إنشاء حياة على الطراز الغربي والقيم الإلحادية!

بعد أن أرسى الغرب (سأستبدل كلمة الغرب ببريطانيا عند هذه الحقبة من التاريخ) قواعده واحتل فلسطين، بدأ الدور الفعال لتلك الأنظمة الأخرى حول العالم والتي تدين بالولاء للغرب بممارسة الخطط الاستعمارية الغربية طويلة المدى، ولأن استمرار الحروب مكلف ومرهق على الامتدادات الجغرافية العالمية، فكانت محاربة الوعي هي السلاح الأنجع الذي يحقق الغرب من خلاله ذات الأهداف التي كان يحققها بالسلاح والقوة والنار، سرقة المصادر والموارد التي لدى الشعوب، وضمان استتباب الأمن العالمي لصالح التوسع والتوغل، وخلق أسواق استهلاكية لا تكاد تعرف شيئاً عن المواد الخام وكيفية استثمارها.

قد تبدو هذه القصة في ظاهرها قصةً تاريخية سياسية بحتة، ولكن واقعها بين السطور فهي تتحدث عن قصة سرقةٍ للوعي، حتى أصبح اليوم لدينا أمة تعيش في ظلام الجهل والتبعية، أمة تجلد ذاتها على عدم قدرتها على التحرك لتحرير فلسطين أولتقرير مصيرها أولمنع اتفاقيات تقضي بسرقة الموارد وأمام عينها، أمةٌ مستهدفة في تعليمها وأموالها وبنيتها التحتية، وقد تخلل هذا الاستهداف تغيير وقولبة في المفاهيم حيث يدعي القائد أن أساس المشكلة في الأتباع، ويصدق الأتباع ذلك، ولم ينتبهوا إلى أن القائد اسمه بطبيعة الحال “قائد”، أي هو المسؤول الأول عن نتائج تقدم الأمة أو تأخرها! بل إن الحديث عن أساليب الاستهداف هو علمٌ قائمٌ بذاته يسمى علم النفس الاجتماعي، فهذه الحكومات الموالية لا تتصرف ولا تفعل ولا تنفعل إلا بعد استشارةٍ حريصة من خبراءَ في هذا العلم ليخبروهم عن التصرف المناسب حيال المواقف الاجتماعية المختلفة. فخلاصة القول، لا يمكن تشخيص الحالة العربية ووعيها باعتبارها مستقلة وغير خاضعةٍ للتأثير المستمر والمحكم، مما يعني أن الحديث عن مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والطائفية هي أمور مفتعلة سببها المؤثرات التي يُحاصر بها الإنسان العربي من خلال حكومات الولاء الغربي.


قد تزيل هذه السطور الشعور بالذنب وتشير إلى أصل المشكلة وراء تقاعس الشارع والشعوب عن التحرك حيال قضاياهم، ولكن، ولتكتمل الصورة، فإن هذا الغرب لم يكتفِ بسرقة الشعوب والأمم من خلال سماسرته أو ما يسمى بحكومات، وإنما مارس ذات الدور التضليلي على شعوبه مستخدماً إياهم كأداة نفسية لتحقير العالم وتجهيله، لتكون المجتمعات الغربية هي النموذج الظاهر في التقدم والرقي وهي مصدر الحلول والطموح لدى الأمم الأخرى التي تسعى إلى الهجرة لتعيش في الأوساط الغربية وكأنها قد دخلت الجنة!

تستنزف دول الغرب شعوبها وتغيبهم إعلامياً عن مشاريعها الاستعمارية الدموية حول العالم، وتحفزهم على المشاركة الإنسانية من خلال المنظمات الدولية التي يدفع الشعب الغربي أموالها! فمن أموالهم صنعوا لهم دوامةً تخدرهم ليظهروا بمظهر الإغاثة والعون للأمم! وعلاوةً على ذلك، تقوم هذه الدول على جثث السكان الأصليين في كندا وأمريكا وأستراليا وشمال أفريقيا، ولا يعلم الناس أنه إلى يومنا هذا فإن الكثير من السكان الأصليين لا يعترفون بإقامة تلك الدول، ويعيشون على الهامش بلا حقوق، وتخدعم الدولة بالإعفاء من الضرائب، وتغذي بينهم الجهل وتعاطي المخدرات والأمراض التناسلية والنفسية وتحارب فيهم الحالة الجمعية القبلية من خلال النظام الأسري الذي يسرق أطفالهم بحجج تقديرية واهية. وفي أبعاد إجتماعية أخرى بعيداً عن هذا الجانب، فكلنا نعرف عن قضايا العنصرية المتفشية في أروقة الدولة والنظام الموضوع، فتبرز قضايا عنصرية ضد السود مرة، وضد الآسيويين مرة، ومرة أخرى ضد المسلمين… إلخ!

وعلى مستوى العلم والتقدم، قام الغرب بإخفاء الكثير من العلوم والحقائق التي تسير عكس رغباته وطموحاته الاستعمارية، وأظهر منها ما يتفق ومخططاته، والحديث في مجال الطاقة والطاقة البديلة قديمٌ جداً، بل هو حديثٌ واسع، ولكن تلك المشاريع لا تتوافق ومتطلبات التوسع والاستعمار التي تحرّك سوق السلاح والنار، وهو السوق الأكثر ربحاً ونفعاً للأرصدة البنكية. كما أن الحديث عن العلوم البيولوجية والجندرية حديثٌ واسعٌ أيضاً ويخفي وراءه مساعٍ استعمارية تُحكم سيطرة النظام الغربي على الناس وبشكل دقيق.

إن الحديث في هذا الباب يطول كثيراً، ولكنني أجعلها دعوة للبحث في ما وراء هذه البرامج والعلوم المنتشرة وطريقة تقنينها حتى ينتبه الباحث بأن ما يجري ويحدث، لا يحدث بنوايا حسنة، وأن للعلم أبواباً أخرى أقفلت ومُنعت، كانت كفيلةً بأن تجعل هذا العالم مكاناً أفضل لنا جميعاً.

وفي الأخير، إنه أن كان يتساءل إنسانٌ عن منجزاتنا، فنحن أمة أخلاقية لا ينام بيننا عريانٌ في الشارع، أمة تكافلية رحيمة، طيبةٌ في نواياها ومقاصدها، تثور وتضج إن حدثت حربٌ هنا أو هناك، ولكننا في ذات الوقت مُحاربون حتى لا نستطيع أن نفعل أكثر مما نفعل، وحتى لا نستطيع أن نرى الخيرية فيما نفعل، وحتى لا نستطيع أن نرى الصورة على حقيقتها.

حاولتُ الابتعاد عن العاطفة قدر المستطاع في أطروحتي، ولكنني أخيراً أقول، إننا بعد تزاحم الحروب والانقلابات والاتفاقيات التي تسرق هويتنا وأرضنا والطموحات الاستعمارية التي تغزو العالم، فإننا لم نكتفِ بتقديم ثورةٍ كما فعل جيفارا وغيره، وإنما قدمنا للعالم كله طوفاناً يكشف كل الأكاذيب ويُسقط الأوهام ويزيل الغشاوة عن عيون الناس، وسيكتب التاريخ هذا الطوفان حتى بعد انتهائه ليكون ركيزة العلوم الإنسانية المستقبلية التي تقيس وتقارن الإنسان قبل الطوفان بما بعد الطوفان.

آدم السرطاوي-كندا