ارتبط الشعبان الفلسطيني واللبناني تاريخياً بجذور لغوية وثقافية وحضارية مشتركة، إلى أن جاء مخطط سايكس بيكو، حين عملت كل من بريطانيا وفرنسا على ترسيم الحدود في الوطن العربي لتفتيت شعوب المنطقة في أقطار ضيّقة، ثمّ أخضعت هذه الأقطار لتحوّلات اقتصاديّة وسياسية وثقافية مختلفة، بهدف خلق أجيال جديدة تتباين وتتعارض أكثر مما تتلاقى وتتفق، كما تم الترويج للهوية التاريخية اللبنانية باعتبارها فينيقية وللهوية الفلسطينية التاريخية باعتبارها كنعانية، في محاولة استعمارية بائسة لمحو الجذور التاريخية المشتركة للشعبين.

على الرغم من كل الحدود وقيود الالتقاء الاجتماعي والسفر التي فرضها الواقع الاستعماري في المنطقة، حافظ الشعبان على ارتباط وجداني عميق، وفي كثير من الأحيان ترجم هذا الارتباط إلى التقاء سياسي ونضالي مشترك، فمنذ نشأة الكيان الإرهابي وعلى أكثر من محطة اختلط الدم الفلسطيني واللبناني معاً في بوتقة النضال لأجل التحرير والحريّة.

وبعد قرار المقاومة اللبنانية الإسلامية الانخراط في معركة طوفان الأقصى في اليوم التالي من اندلاعها، شاهد الفلسطينيون صدق وعد المقاومة اللبنانية في وفائها لقضية تحرير فلسطين، وفاء ترجم على شكل خطط ومقاومة ودماء وفداء وبطولة، ونجحت جبهة الإسناد اللبنانية في الأشهر الأولى من الطوفان في دفع عشرات آلاف المستوطنين إلى إخلاء مستوطنات شمال فلسطين المحتلّة، ونجحت في إرباك الأداء الأمني والعسكري الصهيوني، وفي إشغال واستنزاف موارد رئيسية للعدو، الأمر الذي خفف وطأة المجازر والإبادة الجماعية في غزة ومنح مقاومتها المزيد من القوّة والإصرار.

وقد كان المخطط الصهيوني سابقاً على الطوفان مزمعاً على توسيع الاستيطان في الضفّة الغربية وطرد جزء من أهلها وقتل الجزء الآخر، إلّا أنّ انطلاق الطوفان من غزّة ساهم بشكل رئيسي في إجهاض المشروع الصهيوني في الضفّة. وبنفس القياس، فقد ساهم تصاعد الهجمات من المقاومة اللبنانية في إجبار الكيان الإرهابي على سحب معظم موارده العسكريّة من قطاع غزّة والضفة وتركيزها على الجبهة اللبنانية، وبهذا تكون الجبهة اللبنانية قد فدت الشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته بدمائها وبيوتها وقراها، وكذلك بدماء قادتها وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصرالله.

الآن وبعد أكثر من عام على الطوفان، يظهر بجلاء أنّ وجدان الفلسطيني لا يميّز أبداً بين آلام ودماء الفلسطينيين وآلام ودماء اللبنانيين، كما أنّ فخر الفلسطينيين بالمقاومة الفلسطينية لا يختلف عن فخرهم بالمقاومة اللبنانية، بحيث يمكن القول أنّ مبدأ وحدة الجبهات والساحات قد اتخذ أعلى أشكاله وهو وحدة الدم والمصير.

فليس الدم والتاريخ والثقافة وحدها ما يربط الفلسطينيين باللبنانيين، بل أيضاً المصير والمستقبل، خاصّة وقد تكشّفت الصهيونية عن حقيقتها التاريخية، باعتبارها مشروعاً إجرامياً توسعياً لا تنتهي أطماعه عند حدود فلسطين التاريخية، بل تتخطاها لتصل إلى الدول المحيطة مثل لبنان وسوريا ومصر، بل وأبعد منها أيضاً، حيث تظهر حقيقة الشعار الصهيوني القديم “أرض إسرائيل من النيل إلى الفرات” على شكل مخططات مفضوحة وموضوعة حيّز التنفيذ ومدعومة وموجهة من المراكز الإمبريالية في العالم وخاصّة الولايات المتحدة الأمريكية.

بعد عام على الطوفان، تعرضت لبنان وشعبها ومقاومتها لمجازر يندى لها الجبين، واغتيلت قيادتها ورموزها وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصرالله بما يمثله من رمزية سياسية ووطنية ودينية ونضالية وتحررية وإنسانية على مستوى العالم أجمع، ودمرت بيوت ومستشفيات ونزح أكثر من مليون لبناني، ورغم كل ذلك تصاعدت العمليات اللبنانية العسكرية نوعاً وكماً وعمقاً، في حالة وجدانية تتطابق فيها صيحة “لبيك يا نصرالله” مع صيحة “لبيك يا أقصى”

ويدرك الكثير من الفلسطينيون رغم تشويش الإعلام العربي الصهيوني ومكائده، أنّ خلف أداء المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله خطة محكمة عبّئت بروح القتال حتّى آخر مجاهد. فبعد أشهر من استهداف أنظمة الرقابة والتجسس في شمال فلسطين المحتلة، وبعد طرد المستوطنين منها ولجوئهم إلى عمق الكيان في حيفا ويافا، تشرع المقاومة اللبنانية وباقي الجبهات في استهداف عمق الكيان بعد أن تكدس فيه ملايين المستوطنين، وصارت ثمار حرب الاستنزاف ناضجة وواضحة على مستوى الانهيار الاقتصادي والانهيار النفسي الاجتماعي، وإضعاف القدرات العسكرية والأمنية للكيان، وبسط السيادة العربية الإسلامية على الجو وعلى جزء كبير من الجغرافيا. ويشعر الفلسطينيون الذين رضعوا السياسة والنضال على مدى أجيال، أنّ هناك أمر جلل سيحدث قريباً، ويدركون أنّ تدمير أنظمة التجسس والرقابة في شمال فلسطين وطرد المستوطنين منها، واستهداف البيوت والثكنات والمقرات والتجمعات والمهاجع العسكرية، ليس إلّا تمهيداً لهذه الجغرافيا وتجهيزاً لها لخطوة عظيمة قادمة قد تكون حاسمة.  

على كل حال، وقد توحدت الجبهات واختلطت الدماء وغدا المصير واحداً ومشتركاً، تمتلئ قلوب الفلسطينيين الآن بالثقة واليقين بمقاومتهم وصمودهم ومقاومة اللبنانيين وصمودهم، وأنّ النصر حليفهم وأنّه وشيك بإذن الله.

علي حمدالله – فلسطين