قد يكون أكبر مخرجات العولمة، أنها عدلت النظرة بعض الشيء إلى العوامل الجيوسياسية، وحولت بعض ما كان يسمى أدوات ناعمة سابقاً، حولتها إلى أدوات تأثير جيوسياسية فاعلة…..
نعم، لم تعد تقتصر عوامل التأثير الجيوسياسية على الموقع الجغرافي أو الغنى الثقافي والحضاري أو المركز الديني فحسب، إنما تعدتها إلى مجالات أخرى….
ثقافة اقتصاد العولمة أعطت الدول ذات الفائض المالي الكبير مقدرات جيوسياسية، عدا عن ذلك، و مع دخول الإعلام عصر الفضاء، تحول الإعلام من أداة ناعمة إلى قوة جيوسياسية تضاف إلى رصيد الدولة الجيوسياسي…..
المثال الأمثل عما نتكلم عنه هو إمارة قطر، التي استطاعت توظيف فائض المال الكبير، والذي يتركز بيد واحدة، و الذي لا يخضع لأي رقابة، و يرتبط فقط بالعائلة الحاكمة، و هذا على فكرة عامل أساسي ليصير قوة جيوسياسية…
استطاعت (قطر) توظيف هذا الفائض المالي في جعلها قوة مؤثرة في الكثير من الملفات على مستوى العالم….
أضف إلى ذلك تم تحويل الإعلام هو الآخر إلى رصيد جيوسياسي يتم استثماره هنا وهناك، قد يقول قائل، ولكنه كان كذلك سابقاً، هذا غير دقيق، كان أداة ناعمة للتحكم، ولم يكن وسيلة حاسمة للتغيير….
لعبت قنوات الجزيرة المختلفة (ومنها الرياضية والوثائقية)، دورها في تحويل قطر إلى لاعب جيوسياسي كبير على مستوى المنطقة…
نقطة الضعف الأساسية عند القطريين، كانت خصومتهم للسعودية، و هذا على فكرة عائد في الأساس إلى جذور تاريخية، ولكن هذا ليس موضوعنا في هذه المقالة، هذا النزاع حد من النفوذ القطري في أماكن عديدة….
يجب ألا نغفل هنا، أن الدور (الجيوسياسي) الذي لعبته قطر لم يكن إلا دوراً وظيفياً في سياق المخططات الأمريكية، نعم، القوة الجيوسياسية التي تمتلكها قطر كانت نتيجة استثمار مواردها، و لكن في إطار التحكم و الأدارة و الأجندة والفكرة و التصرف الأمريكي…
و يبدو أن الولايات المتحدة قررت تطوير هذه التجربة و الانتقال بها إلى مرحلة متقدمة، وسلمت الراية إلى الإمارات..
الإمارات استفادت من التجربة القطرية في توظيف المال و الإعلام كقوة جيوسياسية، عدا عن كونها اعتمدت نهجاً معادياً إلى أقصى الحدود لكل حركات (الإسلام السياسي) بشقيه، وخاصة الجانب (المقاوم والوطني) منها، والأهم أنه عقدت تحالفاً وثيقاً مع السعودية، مع أن هذه العلاقة يشوبها الكثير من التساؤلات….
قرأنا وقرأتم خبراً قبل فترة أن هناك 5000 صهيونياً قد حصلوا على الجنسية الإماراتية، الخبر ليس رسمياً ولكن لم يتم نفيه، و لكنه ليس غريباً، التماهي الإماراتي مع الصهاينة وصل إلى حدود تجاوزت ما يمكن تسميته العمالة أو الخيانة، نحن انتقلنا إلى مرحلة المصير المشترك، و هو تحالف يمكن تسميته بالتحالف العضوي، نعم، ليس غريباً أن بعض الطيارين الإماراتيين الذين كانوا في دورة تدريبية في الكيان، قادوا طائرات صهيونية قصفت غزة في إطار التدريب قبل عامين، و ليس غريباً أنه بعد أن أغلق اليمنيون البحر الأحمر بالنسبة للكيان، أن فتحت الإمارات طريقاً برياً ينطلق من موانئها إلى الأردن و من ثم الكيان الصهيوني، ينقل كل ما يحتاجه الكيان، تعويضاً عن الخط البحري عبر البحر الأحمر….
و لكن الأخطر من هذا التحالف العضوي بين الإمارات و الكيان هو الدور الوظيفي الجديد الذي أنيط بالإمارات من قبل الصهاينة….
الإمارات هي حلقة خطيرة في الحلف المضاد لمحور المقاومة من خلال السياقاتآنفة الذكر وسواها.. حلقة خطيرة على نفسها قبل أي شيء آخر!!…
الصهيونية كمفهوم سياسي لا تتحدد أو لا تقتصر على جغرافية، و. ليست مرتبطة بجفرافيا معينة، هي إيدولوجيا لا تستند إلى دين بعينه أو فكر ديني معين، هي استعملت اليهود و كتبهم المقدسة لإقامة نقطة ارتكاز، و طوعت الأسطورة لتحويلها إلى واقع، و قد استنزفت هذه الأسطورة مع أداتها أو نقطة ارتكازها الحالية (إسرائيل) أغلب زخمها الآن، و تحتاج روحاً جديدة أو جغرافية جديدة، تغذيها لتنهض من جديد، و هذا توفره الإمارات، فوفق النهج الحثيث الذي تعمل عليه الإمارات، و الذي هدفه تسييل كل المعتقدات و الشرائع و البنى الفكرية و الاجتماعية، لإعادة صبها في قالب تم تحميله هذه التسمية الفضفاضة (الدين الإبراهيمي الجديد)، أي إعادة تدوير (الصهيونية المنغلقة) إلى (صهيونية أممية) عابرة للأديان والقوميات…
هنا علينا أن نطرح بضعة أسئلة مهمة، هل تستطيع الامارات تحمل تبعات خيارها أنها ذهبت بعيداً في تماهيها مع الكيان الصهيوني؟ هل وضعها الحالي يسمح؟ هل إمكاناتها قادرة على الإيفاء بكل شروط هذا التماهي؟ هل يمكنها أن تذهب إلى الحدود القصوى في هذا التماهي إن نشبت حرب بين إيران والكيان؟؟..
الأسئلة أعلاه يجب أن توضع بالدرجة الأولى أمام المواطن الإماراتي، هذه أسئلة وجودية بكل مافي الكلمة من معنى بالنسبة لمصير الإمارات، وهذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها في الجزء الثاني من هذا المقال…
وهنا علينا أن نذكر الإماراتيين جميعاً أن لقب رئيس دولتهم السابق المرحوم زايد كان (الملك العروبي)، وهذا اللقب له أسبابه الموضوعية، ونذكرهم أن المرحوم طلب في وصيته أن يتقدم السيد الرئيس صفوف المصلين في جنازته رغم أنه كان أصغر الرؤوساء سناً، والصورة تشهد، وهذا أيضاً له دلالته، وأسبابه، وستلته، وعدا ذلك فإن هذه الوصية هي الإرث الذي أراد أن يتركه الشيخ زايد رحمه الله للإماراتيين، لذلك ليس عن عبث أن السيد الرئيس أهدى وزير خارجية الإمارات عندما زاره في دمشق صورة تجمع القائد المؤسس حافظ الأسد مع الشيخ زايد….!
أرض الميعاد الأولى كانت الولايات المتحدة، أرض الميعاد الثانية كانت فلسطين، هل ستكون الإمارات أرض الميعاد الثالثة؟؟!!…..
هذا ماسنجيب عنه في الجزء الثاني…
باسل علي الخطيب – سورية