“دولة عربية واحدة تضم بلاد الشام والعراق ونجد والحجاز”.. هذه هي ملامح الدولة التي ثار لأجلها الشريف حسين على العثمانيين، والتي لقيت تأييداً علنياً قوياً من الشيطان البريطاني الذي أمطرها بالوعود الكاذبة والكلام المعسول، في وقت كان يعدّ فيه مع شريكه الفرنسي خطة لتقاسم المنطقة بعد تفتيتها إلى دول صغيرة فيما عُرف لاحقاً باتفاقية سايكس – بيكو. بريطانيا ذات الإرث الاستعماري العتيق الذي لم يسلم منه إلا القليل من الشعوب على كوكبنا لم تكتف بفرض سيطرتها على دول المنطقة، بل تصرفت فيها تصرّف المالك الأصيل، فوهبت فلسطين التي لا تملكها لمن لا حق له فيها، مُنشئة كياناً غريباً عن المنطقة وتاريخها وثقافتها لتتركه حارساً للمصالح الاستعمارية الغربية، وعائقاً أمام محاولات الدول العربية للوحدة أو حتى للتعاون. ملامح المنطقة هذه التي رسمها الشريكان الاستعماريان قبل انسحابهما منها تختلف كثيراً عن تلك التي قامت لأجلها الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، وهذا التقسيم الجغرافي للأراضي العربية إلى أقاليم صغيرة، والذي طال أمده ليجاوز قرناً من الزمن، ترك أثراً عميقاً في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة، والتي توالت أجيال عديدة منها على نفس الواقع المرير من التقسيم والضعف، فنشأت هويات وطنية في كل دولة لتحل محلّ الهوية العربية الجامعة، والتي تحولت كما غيرها من شعارات الوحدة والعمل المشترك إلى أحلام بعيدة المنال.

ولكن ما هو حال هذه الهويات الوطنية اليوم؟ وهل اطمأنَّ العدو الصهيوني والغرب الاستعماري لهذا التحول في الوعي العربي؟

لا شك أن التقسيم آتى أُكله إلى حد كبير، فقد نجحت السياسات الغربية – الصهيونية في تحييد الكثير من الدول العربية وصرف أنظار شعوبها عن القضايا العربية الجامعة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بل وامتد النجاح إلى تطويع الكثير من حكومات المنطقة وتجنيدها لخدمة مشاريعهم من خلال تمويل تلك المشاريع أو حتى تنفيذها. ولكن هذا النجاح – رغم أهميته وخطورته – لم يشمل كلّ الدول العربية، خاصة تلك المحيطة بالكيان الصهيوني، ولا سيما لبنان وسوريا والعراق، والتي بقي موقفها ثابتاً برفض أي شكل من أشكال التعامل مع (إسرائيل). وهنا جاء المشروع الغربي – الصهيوني الجديد الهادف لتدمير الهوية الوطنية نفسها، وقطع صلة هذه الشعوب بدولها، فأدخلت هذه الدول في حروب خارجية وداخلية، ودمرت اقتصاداتها وأغلقت آفاق المستقبل أمام مواطنيها، الذين ما لبثوا أن وجدوا في الهجرة والعمل خارج أوطانهم سبيلاً وحيداً لتأمين لقمة العيش. هذه الهجرة التي فتح لها الغرب أبوابه بداية تحت عناوين إنسانية، ما لبثت أن شكلت عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على دوله، فعمد إلى تنظيمها بما يعود عليه بأكبر فائدة، وعلى دول المهاجرين بأشد ضرر، فسمح لأصحاب الشهادات العليا والخبرات والكفاءات فقط بالهجرة إليه، محولاً بذلك دول منطقتنا إلى مصنع للأيدي العاملة التي يحتاجها، تاركاً تلك الدول غارقة في مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها.

الأضرار الفادحة التي تسببها هذه السياسة لدول المنطقة على المديين القريب والبعيد يحققها الغرب بدون تكاليف، بل – على العكس – بمكاسب كبيرة. وحلقة المكاسب هذه تكتمل بسياسة التجنيس التي تتبعها الدول المستقبلة للمهاجرين، فجواز السفر الأجنبي – بما يقدمه من ميزات كبيرة لحامله – هو المفتاح الذهبي الذي ينتظره المهاجر ليفتح به مغاليق الأحلام، وليحمي به أولاده وأحفاده من تقلبات الدهر وغدر الزمان. ولكن كيف ترى الدولة المُجنّسة هذه المسألة؟

ترى الدول الغربية في المهاجر إليها استثماراً نصف رابح، فهي تعي جيداً الأسباب التي دفعت به لمغادرة أرضه ووطنه، وتدرك حقيقة تعلّقه بمسقط رأسه ومرتع طفولته، فترى أن الاستثمار الكامل لا يكون به، بل بذرّيته، وهذه هي وظيفة جواز السفر، أن يُبقي المهاجر في دولة الاغتراب ليتزوج ويُنجب فيها. وأما تنشئة الأطفال وربطهم عاطفياً ووجدانياً بدولة الاغتراب فهي وظيفة أنظمة الدمج والتعليم المُحكَمة والتي أُنشئت خصيصاً لهذه الغاية.

اكتمالُ حلقة المكاسب الغربية، يقابلها اكتمالٌ في حلقة الخسائر العربية في دول المهاجرين، فصدى الامتيازات التي تقدم للمغتربين يتردد عالياً في آذان الشباب الطامح لإيجاد ذاته وتحقيق مستقبله، فيغدو الوصول إلى ألمانيا والسويد وغيرها هو أمل الشباب الوحيد لتحقيق أحلامهم، فتراهم يبيعون ما تبقى لهم من ممتلكات في أوطانهم ويشدون رحالهم غرباً زرافات ووحدانا، يركبون البر والبحر والسحاب ليصلوا إلى أرض المعجزات، تاركين أرض الشام والعراق تبكي رجالها ونساءها بين مقتول ومهاجر وجائع.


لم تكن يوماً هوياتنا الوطنية ضمن دولنا هي ما نطمح لترسيخه، ولكن حتى هذه الهويات أصبحت في خطر، خطرٌ يمتد ليطاول أغلى ما تملكه أمتنا، وهو أبناؤها. إن كل مواطن عربي يحزم أمتعته ويغادر منزله وأهله ووطنه هو خسارة فادحة لنا جميعاً، وإن بناء دولنا وترميم ما هدّم فيها، وبعث الأمل مرة أخرى في أفئدة وأرواح أهلها هو المهمة التي يجب أن ينهض بها المخلصون المؤمنون بهذه الأرض وبحق أبنائها في العيش الحر الكريم.
محمد إبراهيم-روسيا