يتمثّل الجانب الاستيطاني الإحلالي من المشروع الصهيوني بجلب غزاة من اليهود وغير اليهود من مختلف أصقاع الأرض ليستوطنوا أرض فلسطين بعد طرد وقتل أهلها، ونعتقد أنّ هذا الجانب يمثّل الأساس الذي تنبني عليه باقي عناصر المشروع الصهيوني مثل طبيعته الرأسمالية وطبيعته التوسعية ومساعيه لتوسيع وتعزيز الهيمنة في الإقليم.
مواجهة هذا الجانب تعني ضرب ركيزة وجود المشروع الصهيوني واستمراريّته، ومواجهته تكون بتعميق الاستنزاف الديمغرافي نحو خلق شروط موضوعيّة تدفع المستوطنين الغزاة إلى مغادرة أرض فلسطين، حيث يساهم الاستنزاف الديمغرافي في تجفيف الموارد البشريّة ل “الجيش” و “جيش” الاحتياط والقطاعات العسكرية والأمنية والقطاعات المكمّلة، كما يساهم في تفريغ سوق العمل من الكادر البشري والعمالة الماهرة وغير الماهرة ومن المستثمرين والذي يؤدي إلى رحيل رؤوس الأموال والمدخرات وإغلاق الشركات، ويعيق المخططات الاستيطانية التوسعية الجديدة التي لن تجد من يسكنها، ويحوّل الكثير من المستوطنات القديمة في الداخل المحتل وفي الضفّة الغربية والقدس إلى مجمعات من الأبنية والمنشآت الفارغة، ويعطّل عمل القطاعات الحيويّة مثل الصحة والصحة النفسية والتعليم والخدمات الأساسية والدفاع المدني والإطفاء والمشتغلين في البنية التحتيّة والكادر التعليمي والأكاديمي والبحثي، أي إنّ الاستنزاف الديمغرافي وتصاعد أعداد الهاربين من الكيان سيؤدي إلى شلّ وتعطيل فعاليّة الكيان الحيوية وقدرته على الاستمرار والبقاء، وفي نفس الوقت ومن الجهة الأخرى لن تواجه دول العالم – بما فيها الدول الأصليّة للمستوطنين – مشكلة في استيعاب الهجرة المعاكسة لهم، حيث إنّ عدد الغزاة من اليهود وغير اليهود على أرض فلسطين لا يتعدى 8 مليون في أعلى تقدير.
وتمثّل محاور الاستنزاف الديموغرافي استهداف جميع العوامل التي تحافظ على بقاء المستوطنين على أرض فلسطين والتي تجذب المستوطنين الجدد، وتحويل الكيان من بيئة جاذبة للاستيطان إلى بيئة طاردة، وأهمها:
أولاً: فقدان الثقة بقدرة “الجيش” على توفير الأمن والحماية، حيث يدرك المستوطنون أنّهم غزاة على أرض غريبة وفي محيط معادٍ، وعليه يدركون أهميّة وجود جيش قوي قادر على توفير الحماية والأمن وتحقيق الردع ضد الأعداء، وفقدان الثقة بقدرة الجيش في ذلك سوف تدفعهم إلى الهرب.
ثانياً: الرخاء والازدهار، عملت الصهيونية منذ تأسيسها على تشجيع استيطان اليهود في فلسطين عبر تقديم وعود على شاكلة أنّ “إسرائيل” ستكون أرض اللبن والعسل وأرض الرخاء والازدهار، وساهم العامل الاقتصادي ومعدلات الدخل العالية وأنظمة الحماية الاجتماعية والضمان والتأمين الصحي ومخصصات البطالة ورعاية المسنين وغيرها في خلق بيئة جاذبة للمستوطنين الجدد وقادرة على المحافظة على المستوطنين الحاليين، إلّا أنّ طوفان الأقصى يساهم في استمرار حالة الحرب والطوارئ في إطار حرب الاستنزاف لما يقارب العام حتى الآن، والذي أدّى إلى إعادة تخصيص الموازنات لأغراض الحرب وإعطاء الأولوية القصوى ل “الجيش” في مختلف الموارد، كما أدّى إلى رفع تكاليف الحرب المباشرة وغير المباشرة وإلحاق أضرار استراتيجية بالاقتصاد وانسحاب الاستثمارات الكبيرة والأجنبية، سيؤدي كل ذلك إلى انتهاء عصر الرخاء والازدهار بلا رجعة وتقويض وزعزعة ارتباط المستوطنين بالكيان وتحويله من بيئة جاذبة للمستوطنين إلى بيئة طاردة.
ثالثاً: انعدام الأفق والأمل بالمستقبل، إذ يساهم تنامي الشعور والقناعة بانعدام الأفق والمستقبل للكيان في دفع العديد من المستوطنين إلى مغادرته بحثاً عن مستقبل آمن لهم ولأبنائهم، ويساهم في تعزيز هذا الشعور غياب رؤية استراتيجية مقنعة ومنطقية لدى القيادة السياسية في الكيان، وعدم وجود إجابات استراتيجية لحل معضلات الاقتصاد والأمن القومي الحالية، وتنامي قدرات قوى المحور على مختلف المستويات، وثبات وصمود ومقاومة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، وتعميق وتوسيع العزلة الدولية للكيان، ومسار توحّد العرب والمسلمين واستعادتهم لسيادتهم على أرضهم ومواردهم وقرارهم السياسي، وتنامي الكره والغضب المحلي والإقليمي والعالمي ضد الكيان.
رابعاً: العنصر الأخلاقي، رغم الطبيعة الوحشية والدموية للمشروع الصهيوني ولشرائح واسعة من المستوطنين، إلّا أنّ مستوى الإجرام والإبادة غير المسبوق قد يدفع شرائح مختلفة من المستوطنين إلى مغاردة الكيان، ويذكر تاريخ النضال الفلسطيني العديد من الحالات التي غادرت الكيان وانقلبت ضد الصهيونية بدوافع أخلاقيّة، كما يدرك الكثير من المستوطنين أنّ أولئك الجنود الذين استمتعوا بتفجير المربعات السكنية وقتل الأطفال والنساء وتدمير المستشفيات وممارسة العنف الجنسي والاغتصاب ضد الأسرى، سيتحولون بعد انتهاء الحرب إلى مرضى سايكوباثيين يشكلون خطراً على الأمن الأهلي والداخلي للكيان.
خامساً: توقعات زوال الكيان، شهدت فترة الطوفان ارتفاعاً غير ملحوظ في أعداد الدراسات والنقاشات والمقالات التي تتناول موضوع زوال الكيان، وبعض هذه الآراء خرجت عن قيادات سياسية سابقة للكيان ومؤرخين معتبرين ورجال دين، ناهيك عن مراكز الأبحاث الأمريكية والأوروبية وغيرها، فيما يبدو أنّ العالم كلّه يناقش هذا السيناريو.
ستشكّل هذه الأجواء بيئة ضاغطة كبيرة ومقلقة ومخيفة على المستوطنين الذين سيدركون أنّ أمنهم الشخصي وأمن عائلاتهم وكذلك مستقبلهم مهدد في حال بقائهم في الكيان، وسيدفعهم للبحث عن بدائل للهروب والاستقرار في الخارج قبل أن تقع الواقعة. ويمكن أيضاً قياس توقعات الحرب الشاملة على توقعات زوال الكيان من حيث اتجاه الأثر لدفع المستوطنين للهروب.
سادساً: الحرب النفسية، حيث تعمل قوى المحور على إدارة حرب نفسية مركبة ضد الكيان والمستوطنين، وتساهم في تعميق الشعور بالقلق والخوف والذعر وعدم الاستقرار، وتشير التقارير من داخل الكيان عن أعداد المرضى النفسيين التي ترتفع بشكل غير مسبوق وفي ظل عجز كادر الصحة النفسية المتخصص في التعاطي مع هذه الحالات، ونرى أنّه بالإضافه إلى الحرب النفسية فإنّ قناعة وإدراك المستوطنين لمستوى الإجرام والإبادة الصهيوني وضعهم في مواجهة صريحة أمام أنفسهم وهي من القوّة بحيث لا يمكن لآليات الإنكار الذاتي النفسية الهروب منها، ما يؤدي حتماً إلى تفشّي أشكال متعددة من الأمراض النفسية.
سابعاً: الاستنزاف الديمغرافي المباشر والمتمثّل في ارتفاع أعداد الإصابات من الجرحى والقتلى في صفوف الكيان، وكذلك الاستهداف المباشر للمستوطنات، والتي ستؤدي إلى النزوح الداخلي أو الهروب من الكيان، كما حدث في مستوطنات غلاف غزّة ومستوطنات شمال فلسطين المحتلّة، وسيؤدي تصاعد مستويات الحرب واستهداف المراكز السكّانية الرئيسية مثل يافا وحيفا وما يسمّى “تل أبيب” الكبرى إلى تحقيق صدمة ديمغرافية غير مسبوقة.
ثامناً: إعادة الهندسة الديمغرافية، حيث نجح طوفان الأقصى في إعادة هندسة ديمغرافيا الكيان عبر إعادة التوزيع الجغرافي للمستوطنين نتيجة النزوح، وإعادة التوزيع المهني حيث تؤدي الحرب المستمرة لما يقارب العام إلى إعادة تخصيص الموارد البشرية المحدودة بما يخدم احتياجاتها، وهذا يتجلّى بوضوح في أثر التجنيد الطويل للاحتياط في إفراغ سوق العمل والاقتصاد، سيكون لذلك تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على العوامل الاجتماعية والنفسية.
هذه بعض محاور الاستنزاف الديمغرافي، وجميعها مرتبط بطريقة جدلية تفاعلية وتؤثّر على بعضها البعض، كما إنّ الاستنزاف الديمغرافي وازدياد عدد الهاربين من الكيان يعمل على تعزيز جميع هذه العوامل، فهو ليس نتيجة فقط بل سبب لتعميق وتوسيع ذات العوامل التي تؤدي إليه.
علي حمدالله – فلسطين