هذا هو الوضع الذي عليه المنطقة حالياً: مرحلة ما فوق الاستنزاف وما تحت الحرب…..
الكيان يريد أن يعكس (حرب الاستنزاف) من استنزاف له إلى استنزاف للمقاومة، يريد مراكمة الضغط على المقاومة اللبنانية إلى الحد الذي يمكن فيه إنهاك الجسد اللبناني وإنهاك بيئة المقاومة، وبعد ذلك يوجه ضربته القاضية….
يرى الكيان أن أمامه فرصة لن تتكرر أبداً، لا تأتي فرص كهذه إلا كل خمسين عاماً، وهي عادة تكون لحظات مفصلية في تاريخ المنطقة، كانت إحداها على سبيل المثال حرب 1967. يرى أن أمامه فرصة عليه اغتنامها، وبالتالي يذهب باتجاه خطوات قد تكون مدروسة في ظاهرها، ولكنها خطوات انتحارية حقاً، وكأني بالصهاينة يراهنون على حكمة محور المقاومة، بأنهم -أي الصهاينة- يستطيعون أن يفلتوا (مجانينهم)، أما محور المقاومة فيضبط (مجانينه)….
نعم، يرى الكيان أنه أمام فرصة تاريخية لإعادة رسم هندسة جديدة للمنطقة، لأنه وحسب الوضع الحالي، وتحديداً الوضع الداخلي في الكيان على كل المستويات، سيكون وضعه قلقاً جداً في خريطة المنطقة مستقبلاً، وقد فقد أو كاد يفقد دوره الوظيفي، لذلك تراه يذهب إلى التصعيد غير المحسوب، وهذا التصعيد سيقابل بتصعيد، ليليه تصعيد لاحق. نعم، الصهاينة ينجحون في فتح الملفات – وهي هنا الجبهات – ولكن لا يستطيعون إغلاقها….
هذا هو المأزق الاستراتيجي الذي يعيشه الكيان الآن….
الحروب التقليدية لم تعد تحقق أهدافها … خذوا على سبيل المثال العدوان على غزة؛ الحرب لم تحقق أهدافها الأساسية، سوى أن الصهاينة ارتكبوا كل ما يريدون ارتكابه من مجازر وتدمير. كانت الاستراتيجية الصهيونية تقوم سابقاً على هندسة المنطقة أولاً ثم التفرغ لتصفية القضية الفلسطينية … يبدو أن هذه الاستراتيجية فشلت بعد فشل صفقة القرن، وبعد فشل الصهاينة في تحييد سورية. هنا قرر الصهاينة عكس تلك الاستراتيجية، أي هندسة المنطقة انطلاقاً من فلسطين؛ تصفية القضية الفلسطينية عبر القضاء على عناصر القوة، لذلك كان ذلك الإيغال المتوحش في الدم الفلسطيني في غزة، والسعي إلى القضاء على المقاومة في كل أشكالها في الضفة، مع زيادة الاستيطان هناك، وإطلاق يد المستوطنين، ولا أستغرب أن يأتي يوم ويعلن الصهاينة فيه ضم الضفة على مراحل، وإنهاء اتفاقية أوسلو والقضاء على السلطة الفلسطينية، وبعد ذلك ينطلقون إلى هندسة المنطقة على أساس أن (القضية المركزية) قد تم تصفيتها….
طبعاً المقاومة اللبنانية ستلجأ إلى الرد، والرد سيكون نوعياً جداً ومؤلماً جداً، وظني أنه سيكون مفاجئاً جداً للكل، وتدحرج الأمور مرهون بالرد الصهيوني اللاحق. نعم، ما حصل يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين كان ضربة موجعة وكبيرة للمقاومة، وما حدث لاحقاً من استهداف مبان سكنية في الضاحية وارتقاء عدد من الشهداء من عناصر المقاومة والمدنيين كان كذلك أيضاً …
تلك كانت ضربات مؤلمة، ولكن هذا لا يعود إلى خلل ما موجود في بنية المقاومة، كما يحاول الكثير من الإعلام الترويج له، إنما يعود إلى فارق الإمكانات التقنية الموجود، لاسيما إذا علمنا أن كل إمكانات الناتو التقنية والتكنولوجية هي في تصرف الكيان في هذه الحرب. هنا يجب أن ننوه إلى نقطة مهمة جداً، وهي أن وسائل الإعلام المؤيدة للعدو لم تُعِر أي أهمية لكون الأهداف المستهدفة في تلك العمليات أهدافاً مدنية، وركزت على تضخيم الضربات ونتائجها. وهذا – مرة أخرى – ذاتُ الأسلوب الخبيث إياه الذي اتُبع من قبل نفس وسائل الإعلام لتبرير المجازر في غزة …
نعم، تلك كانت ضربات موجعة، ولكن هذا لم يسقط المقاومة، والدليل: العدد الكبير من العمليات الذي نفذتها المقاومة خلال الأيام الماضية، ورغم أن هذا لا يمكن تسميته بالهدوء – أقصد عمليات المقاومة – إلا أنني أطلق عليه (هدوء ما قبل العاصفة). السؤال الكبير الذي يطرح الآن، ماذا سيحصل بعد العاصفة، وأقصد بالعاصفة هنا رد المقاومة، هل تتحول العاصفة إلى إعصار لا يبقي ولا يذر؟؟؟!!
هنا، يجب أن نتحدث عن دور الولايات المتحدة. العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان أكبر مما يقال عبر وسائل الإعلام، ولا تحددها تلك المهاترات التي يحكى عنها بين هذا السياسي من هنا وذاك السياسي من هناك. العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان علاقة مؤسساتية، فلا يمكن للمؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية أن تسمح بهزيمة الكيان في هذه الحرب. على فكرة هذا تطور يحسب لصالح محور المقاومة، فقد كان الهدف من إطلاق يد الكيان بُعَيد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، أن يحقق هذا الكيان نصراً حاسماً لا شك فيه، أما بعد قرابة السنة فقد صار الهدف ألا يُهزَم هذا الكيان، وشتان ما بين الأمرين….
ما حدث يومي الثلاثاء والأربعاء، حدثٌ جلل ومفصلي في تاريخ الكوكب. يبدو أن أمريكا بدأت تعي أن النظام العالمي القديم قد انتهى، ويبدو أنها أقرت بذلك مع نهايات الحرب على سورية وبدء الحرب في أوكرانيا، لذلك تريد أن تفرض هي -لا غيرها- أسس النظام العالمي الجديد…
البداية كانت مع غزة، مع العدوان على غزة؛ الدول الخمسة الكبرى في ذاك الغرب: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، كندا، قدمت دعماً لا محدوداً للكيان، وكانت مستعدة للدفاع عنه، والتغطية على أعماله، وسمحت له بخرق كل المعايير التي قام عليها النظام العالمي القديم. حتى أثناء الحرب على سورية، كانت هناك محاولات ولو بالشكل للحفاظ على المؤسسات الدولية، لكن ما قام به الكيان في غزة، نتيجة هذا الدعم اللا محدود، دمر كل المعايير التي قام عليها النظام العالمي القديم … ما حدث يومي الثلاثاء والأربعاء من تفجير أجهزة البيجر، هو القضاء النهائي على تلك القواعد التي قام عليها النظام العالمي، أصبحت التجارة – بالمعنى الحرفي للكلمة – جزءً من الحرب العسكرية. المفارقة، أن العولمة أصبحت مهددة، والعولمة هي مشروع معياري أمريكي، وهي أس التجارة العالمية، وهي أساس النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991….
نعم، يبدو أن هذه الدول بدأت تعتبر أن النظام العالمي الذي كان قائماً بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد مناسباً، وإذا كانت الحرب على سورية أعلنت نهاية هذا النظام العالمي الجديد، فإن حافات الصراع الحالي على مستوى العالم ترسم ملامح النظام العالمي الجديد: غرب آسيا ، أوكرانيا، بحر الصين. أمريكا لا تستطيع تحمل هزيمة الكيان، وتعتبر ذلك مدماكاً أساسياً في سياق وضع أسس النظام العالمي الجديد…
هنا نأتي إلى نقطة مهمة؛ نجح محور المقاومة في فرض معايير النصر والهزيمة، وقد فرض هذه المعايير على العدو؛ المعيار الأول هو فك الارتباط مع جبهة غزة، أي إيقاف جبهة الإسناد، والمعيار الثاني هو عودة المستوطنين إلى الشمال..
المقاومة قبلت التحدي، هل نحن أمام أيام صعبة ومفصلية؟ نعم. هل دخلنا لحظة التحول العالمية؟ نعم. ماهي خيارات المحور؟ الذكاء الاستراتيجي في تعاطي المحور مع ما يحصل أنه لم يضع أهدافاً عالية السقف أو مستحيلة: أوقفوا العدوان على غزة، تتوقف جبهات الإسناد، نقطة على السطر…
هذه حرب النقاط وليست حرب الضربات القاضية، هذه استراتيجية وضعتها سورية ومارستها في الصراع مع الكيان الصهيوني منذ خروج مصر من الصراع، وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحات كبيرة؛ راكمت سورية عناصر القوة عبر دعم حركات المقاومة على مستوى المنطقة، والنتيجة كانت مذهلة بعد أربعين سنة من هذه الاستراتيجية؛ الكيان أمام أزمة وجودية، لأن الصهيونية فقدت قوتها الدافعة…..
يجيد الكيان الحرب عن بعد، وهذا أمر يستغله إلى أبعد الحدود. مقتل الكيان في حروب الالتحام، لذلك كانت عملية طوفان الأقصى مرعبة لهم. الخطوة الاستراتيجية الأكبر للمقاومة أن تنقل المعركة إلى شوارع مستوطنات العدو، هل حان وقت هذا القرار؟ دعونا ننتظر…
باسل علي الخطيب – سورية