
لم يكن تصريح دونالد ترامب بشأن غرينلاند حدثًا عابرًا أو زلة لسان سياسية، بل جاء محمّلًا بدلالات جيوسياسية عميقة، تعكس تحوّلًا واضحًا في مقاربة الولايات المتحدة لمفهوم الأمن القومي في القرن الحادي والعشرين. فحين يربط رئيس أمريكي جزيرة تقع في أقصى شمال الكرة الأرضية مباشرة بالأمن القومي الأمريكي، فإن المسألة تتجاوز الخطاب الإعلامي لتلامس صميم الصراع الدولي المقبل.
غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، تقع جغرافيًا بين المحيطين الأطلسي والمتجمد الشمالي، وتشكل حلقة وصل استراتيجية بين أمريكا الشمالية وأوروبا، وبوابة مباشرة نحو القطب الشمالي. ورغم تبعيتها السيادية لمملكة الدنمارك، فإن موقعها جعلها منذ الحرب الباردة موضع اهتمام أمريكي بالغ، تُرجم عمليًا بوجود قواعد عسكرية أمريكية، أبرزها قاعدة “ثول” الجوية، التي تمثل جزءًا من منظومة الإنذار المبكر والدفاع الصاروخي للولايات المتحدة.
أهمية غرينلاند لا تنبع فقط من موقعها، بل من كونها مفتاح الوصول إلى القطب الشمالي، ذلك الإقليم الذي كان لعقود طويلة خارج حسابات الصراع الدولي، قبل أن يؤدي ذوبان الجليد بفعل التغير المناخي إلى فتح ممرات بحرية جديدة، والكشف عن مخزون هائل من الثروات الطبيعية، من نفط وغاز ومعادن نادرة. هذا التحول جعل القطب الشمالي ساحة تنافس مفتوحة بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها روسيا، التي تمتلك أطول ساحل على المحيط المتجمد الشمالي، والصين التي تعرّف نفسها اليوم كـ“دولة قريبة من القطب”.
من هذا المنظور، يمكن قراءة تصريحات ترامب عن الوجود البحري الروسي والصيني في المنطقة، ليس بوصفها تهديدًا تكتيكيًا محدودًا، بل كمؤشر على قلق استراتيجي أمريكي من فقدان السيطرة على مسار جغرافي حيوي، قد يعيد رسم خرائط التجارة والطاقة والنفوذ العالمي. فالسيطرة على غرينلاند تعني عمليًا القدرة على مراقبة طرق القطب الشمالي، والتحكم بجزء من التوازن الاستراتيجي مع كلٍّ من موسكو وبكين، وتقليص الاعتماد الأمريكي على سلاسل الإمداد الصينية في المستقبل.
في المقابل، جاء الموقف الدنماركي حاسمًا برفض أي حديث عن بيع الجزيرة أو التنازل عنها، وهو موقف لا تحكمه السيادة الوطنية فحسب، بل تحكمه أيضًا التزامات قانونية وأمنية ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو). هنا تبرز المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص بوضوح على أن أي اعتداء مسلح على دولة عضو يُعد اعتداءً على جميع الدول الأعضاء، ويستوجب الرد الجماعي للدفاع عنها. خطورة المشهد تكمن في أن أي محاولة أمريكية لفرض أمر واقع بالقوة على غرينلاند ستضع الحلف أمام تناقض غير مسبوق: دولة عضو تعتدي على دولة عضو أخرى.
مثل هذا السيناريو، إن حدث، لن يهدد فقط تماسك الناتو، بل قد يفتح الباب أمام تصدعات داخلية عميقة، في وقت تعاني فيه أوروبا أصلًا من إنهاك استراتيجي واقتصادي بعد حرب أوكرانيا، ومن تراجع نسبي في قدرتها على الفعل المستقل. وهو ما يصب، في نهاية المطاف، في مصلحة روسيا التي طالما راهنت على إضعاف البنية الغربية من الداخل.
أما الربط بين الموقف الأمريكي من أوكرانيا، واحتمال القبول بتنازلات لصالح روسيا، وبين ملف غرينلاند، فيفتح بابًا مشروعًا للتساؤل حول ازدواجية المعايير في احترام القانون الدولي. فالتغاضي عن خرق سيادة دولة في مكان ما، قد يشكّل تمهيدًا سياسيًا وأخلاقيًا لتبرير خروقات مماثلة في مكان آخر، حين تفرض الجغرافيا كلمتها.
في المحصلة، نحن أمام مشهد دولي يعاد تشكيله من بوابة الجغرافيا. غرينلاند ليست جزيرة نائية على هامش الخريطة، بل عقدة استراتيجية في صراع عالمي يتجه شمالًا، حيث الثروة والممرات والنفوذ. والسؤال لم يعد إن كانت هذه الجزيرة مهمة، بل إلى أي حد يمكن أن تذهب القوى الكبرى في سبيل السيطرة عليها، وما الثمن الذي سيدفعه النظام الدولي نتيجة ذلك.
تؤكد أزمة غرينلاند حقيقة قديمة تتجدد: الجغرافيا ليست صامتة، بل هي لاعب حاسم يفرض منطقه على السياسة والقانون معًا.
وبين تصاعد التنافس في القطب الشمالي، وهشاشة التحالفات التقليدية، تبدو ملامح معركة كبرى في طور التشكل، قد لا تكون ساحاتها في الجنوب هذه المرة، بل في أقصى الشمال.
فحين تتغير خرائط الجليد، تتغير خرائط القوة…
ويبقى السؤال: من يكتب القواعد عندما تتكلم الجغرافيا؟
فاتنة علي_لبنان/سوريا الكبرى
