من موسكو إلى كييف: فرضيّة إعادة تشكيل الوجود الأجنبي في سوريا
بقلم:فاتنة علي_لبنان/سورية الكبرى
في الأيام القليلة الماضية، تداولت بعض وسائل الإعلام والمواقع والصحف حديثًا عن وثيقة سرّية مسرّبة، نُسبت إلى العميد مناف طلاس، تتضمن مقترحات موجّهة إلى القيادة السورية الجديدة حول ملف الوجود الأجنبي في سوريا، وبصورة أكثر تحديدًا الوجود الروسي، مع طرح فكرة استبداله بوجود أوكراني.
وبغضّ النظر عن صحّة هذه الوثيقة أو دقّة التسريبات، فإن الفرضيّة بحد ذاتها تستحق النقاش والتفكيك. ماذا لو تحقّق هذا السيناريو فعلًا؟ وما الذي يمكن أن يترتب عليه إقليميًا ودوليًا؟
هذا السيناريو، وإن بدا معقّدًا وصعب التحقق، إلا أنه ليس مستحيلًا في عالم السياسة. فالثابت الوحيد في العلاقات الدولية هو المصالح، لا التحالفات الدائمة ولا العداوات الأبدية.
ومن المهم التذكير بأن الدعم الروسي للنظام السوري لم يكن يومًا نابعًا من محبة أو تقاطع عقائدي، بل كان قرارًا استراتيجيًا صرفًا. ومع ذلك، وقع جزء من الجمهور العربي في فخ العاطفة، وذهب إلى تصوير العلاقة على نحو رومانسي (أبو علي بوتين )، متناسيًا أن لعبة الدول لا تعترف بالمشاعر.
السؤال الجوهري هنا: هل يمكن أن تقبل روسيا بمثل هذا الترتيب؟
الإجابة، وفق منطق السياسة، هي: نعم، هذا ممكن.
في الفترة الأخيرة، اتخذت أوروبا خطوات بحق موسكو، من بينها حجز أو التصرف بأموال روسية موجودة في بلجيكا. وقد يشكّل هذا الملف أحد أوراق التفاوض أو الإغراءات بدل أن يكون ورقة ضغط كما هو الآن (التراجع عن القرار مقابل الخروج من سوريا ) .
يضاف إلى ذلك التصريح الروسي اللافت حول قاعدة حميميم، حين جرى توصيفها على أنها قاعدة ذات طابع إنساني وإغاثي أكثر من كونها قاعدة عسكرية، وهو توصيف قد يُقرأ بوصفه تمهيدًا لإعادة تعريف الدور الروسي في سوريا.
كما أن اللقاءات الروسية–الأميركية الأخيرة بدت، في شكلها ومخرجاتها، وكأنها تتجاوز الدور الأوروبي كاتحاد، وهو ما قد يدخل ضمن سلّة التفاهمات الكبرى.
الإقليم والمصالح المتقاطعة
على مستوى الإقليم، قد لا يكون هذا السيناريو مرفوضًا. فمرور خط الغاز باتجاه أوروبا ينسجم مع مصالح تركيا، التي ترى في ذلك مشروعًا استراتيجيًا طويل الأمد.
ومع وجود ثلاثة أطراف رئيسية ترى في هذا التحوّل مصلحة مباشرة — (إسرائيل)، الولايات المتحدة، وأوروبا — ومع قبول تركي محتمل، يصبح المشهد أكثر قابلية للتصديق.
أما على المستوى الداخلي السوري، ربما يظهر تأييد علوي واسع في الساحل، مدفوعًا بشعور بالخذلان من الموقف الروسي، ولا سيما في ظل ما تعرّض له أبناء المنطقة من مجازر طائفية موجعة، لم تحظَ بتغطية إعلامية عادلة.
تشير التسريبات أيضًا إلى تشديد على التنسيق مع فرنسا بوصفها وسيطًا محتملًا. وهذا التفصيل ليس عابرًا، إذ إن باريس تضرّرت في السنوات الماضية من تمدّد النفوذ الروسي، سواء في سوريا أو في بعض الساحات الإفريقية، حيث تقلّص الحضور الفرنسي بشكل ملحوظ.
من هنا، قد تجد فرنسا في هذا التحوّل فرصة لاستعادة جزء من نفوذها المفقود، ما يجعلها طرفًا داعمًا، بل دافعًا، نحو هذا الخيار.
بالنسبة إلى الإدارة السورية الجديدة، أو ما يُسمّى بالسلطة الانتقالية التي منحت نفسها شرعية لخمس سنوات، فإن هذا التحوّل قد يشكّل مكسبًا استراتيجيًا.
وجود أوكراني يعني، بحكم المعادلات، رضا تركيًا، ومصلحة أميركية، وضمانات لـ(إسرائيل). وكل ذلك ينعكس دعمًا دوليًا لهذا الحكم، بما يساهم في إطالة عمره، وربما تسويق الخطوة إعلاميًا على أنها “إنجاز سيادي كبير”.
في الوقت نفسه، قد يساهم هذا المشهد في إحداث انفراجات جديدة في العلاقات التركية–الإسرائيلية، ويؤدي إلى تأجيل مواجهة كادت أن تقع في مرحلة سابقة.
في الجهة المقابلة، تبرز مفارقة لافتة: تسريبات تركّز على النظام السابق، وتتجاهل في الغالب التقدّم الإسرائيلي في الجنوب السوري، أو العمليات النوعية التي جرت في مناطق مثل بيت جن وتدمر.
وما جرى في تدمر تحديدًا يكشف بوضوح أن الفصائل لم تتوحّد يومًا، بسبب بنيتها المؤدلجة. كثيرون دخلوا سوريا وهم يعتقدون أنهم في طريقهم إلى القدس، محمّلين بخطاب تعبوي مشوّش، ليصطدموا بعد الوصول إلى الحكم بواقع مغاير تمامًا، بل كارثي.
هذا الواقع يؤكد أن هذا الحكم قابل للتآكل من الداخل، وأن استبدال الروسي بالأوكراني قد يدفع قوى دولية عديدة إلى التعاون من أجل سدّ ثغراته والحفاظ عليه.
إلى أين يتجه العالم؟
نحن اليوم أمام مرحلة جديدة من الصراع العالمي. الحرب لم تعد عسكرية مباشرة، بل انتقلت إلى أشكال أكثر مراوغة، تشمل السياسة والاقتصاد والطاقة والنفوذ.
الجميع يحتاج إلى وقت، والجميع يسعى في هذا الوقت إلى حجز موقعه في الجولة التالية، وهي جولة قد لا تكون محدودة جغرافيًا ولا زمنيًا.
هل نحن أمام تهيئة نهائية لمراحل متقدمة من حرب عالمية ثالثة؟
الإجابة ما زالت مؤجلة، لكن المؤكد أن صمت بعض القوى واللاعبين الإقليميين الأساسيين يحمل في طياته أكثر مما يعلنه الخطاب العلني.
«في عالم تحكمه المصالح، لا يُقاس الصمت بالغياب، بل يُقاس بما يُحضَّر خلف الكواليس.»
