النموذج السوري: حجّة على لبنان أم حجّة له

منذ سقوط النظام السوري السابق في الثامن من ديسمبر الماضي وتربُّع زعيم هيئة تحرير الشام على عرش الحكم في سوريا واندفاعه المحموم نحو السلام مع الخارج واستعداء بعض الداخل بل معظمه، لم تهدأ الأصوات التي تدعو لبنان واللبنانيين إلى الاقتداء ب”الشقيقة” وحذو حذوها قبل فوات قطار الازدهار السريع الذي انطلق في المنطقة والذي لن يقف في محطة أكثر من مرة.

و”أحمد الشرع” قد حجز مقعده في القطار باكرا، فبات الكلام المعسول والثناء الجميل يُغدق عليه من كل حدب وصوب وخاصة من المسؤولين الأمريكيين، فتارة يوصف بالشجاع والوسيم، وطورا تُبخّ عليه العطور في البيت الأبيض، وكأنه ما كان حتى الأمس القريب مطلوبا لهؤلاء الذين يتغنّون به الآن، وكأنه ما كان على رأس لوائح إرهابهم وقوائم مطلوبيهم.

ماذا يطلبون من لبنان؟

يقولون: سلّموا كي تسلموا. ويقولون: ألا ترون عتادكم لا يطرد محتلا ولا يصدّ عدوانا ولا يُسقط مسيّرة تحوم فوق رؤوسكم على علوّ بضعة أمتار إمعانا في إذلالكم وإذلال سيادتكم؟ ألم يأن لكم أن تسلّموا بالواقع الجديد والموازين التي اختلّت إثر حرب ضروس لم تُبقِ ولم تذر؟ ألم يحن وقت الأمن والسلام والعيش جنبا إلى جنب مع جارة لا تريد سوى أمنها وأمان سكانها ولا أطماع لها في أرضكم ومياهكم ومواردكم؟ فالجارة تريد السلام معكم ولا تضمر لكم شرا، فلماذا إذا ترفضون السلام الذي طال انتظاره وصار شعار المرحلة المقبلة في المنطقة؟

أرسلوا مبعوثين سياسيين من وزراء أو سفراء واجلسوا إلى طاولة واحدة مع حماة الديمقراطية والأقليات في المنطقة، وانزعوا سلاح ميليشيات تكدّر صفو عيشكم قبل عيش الآخرين، واقطعوا علاقات مشبوهة مع دولة كانت تحكم قبضتها عليكم وتوظّف شبابكم ومقدّراتكم في خدمة مصالحها وتصدير ثورتها، ولكم في المقابل الأمن والأمان والرَّوح والريحان.

فإعادة الإعمار والاستثمارات والأموال سوف لن ترونها إلا بعد تنفيذ المطلوب منكم من حصر سلاح وبسط سيادة وعدم تخلّف عن الركب. وتحرير الأرض وممارسة السيادة لا تتطلب منكم سوى تحقيق هذه الشروط التي ستعود بالنفع عليكم.

انظروا إلى الحكم في سوريا والقيادة الرشيدة فيها التي قرأت بعين البصيرة مجريات الأمور وسارعت إلى حفظ مكان لها بين الأمم المتحررة التي تمد جسور السلام مع محيطها. سيروا على خطاهم كي تنالوا كما نالوا. أما رأيتم قائد سوريا الشهم ضيفا في البيت الأبيض بينما يقوم رئيسكم بزيارة بلغاريا، دولة على هامش دول القرار؟

ماذا قدّم الحكم الجديد في سوريا؟

لقد قدّم نظام الحكم الجديد في سوريا ل”إسر/ئيل” وأمريكا ما لم تكونا تحلمان به. فبعدما كانت سوريا قلعة من قلاع المق/ومة وحلقة أساسية في محور المم/نعة، أصبحت اليوم في المقلب الآخر تماما. فقادة النظام يتفاخرون بأنهم هم من قاموا بطرد الإيرانيين وحز.ب الله من سوريا، وبأنهم قطعوا طريق إمداد المق/ومة في لبنان وسيطروا على الحدود والمعابر. كما إنهم قاموا بالتضييق على الفصائل الفلسطينية المختلفة التي كانت تجد في سوريا حضنا دافئا وملجأ حصينا.

ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق، فتح الحكم الجديد الأجواء السورية للطائرات “الإسر/ئيلية” للقضاء على معظم مقدرات الجيش السوري الذي تم حلّه. فقامت “إسر/ئيل” بضرب المطارات والمستودعات والأسلحة على اختلاف أنواعها بينما أُشغل الرأي العام العربي والعالمي بسجن صيدنايا الذي شاءت “الصدفة” أن تستوعب تغطيته الإعلامية طوال مدة الحملة “الإسر/ئيلية”.

وصرّح الرئيس الانتقالي “أحمد الشرع” في حواره مع “ذا واشنطن بوست” إن حكومته ارتأت عدم الرد على أكثر من ألف غارة جوية “إسر/ئيلية” على سوريا منذ سقوط النظام السابق لأنها تريد إعادة بناء البلاد.

وعلى صعيد التفاوض، لم يتأخر الحكم الجديد في القبول بمفاوضات مباشرة مع “إسر/ئيل”، فكانت الاجتماعات بين ممثلي حكم الطرفين على أعلى المستويات من وزير الخارجية ووزير الشؤون الاستراتيجية. والتفاوض ليس على الجولان الذي سلّم الحكم في سوريا بنسيانه أو تناسيه، وليس على حل ميليشيات أو تنظيمات مق/ومة إذ لا مق/ومة ولا من يق/ومون. بل كانت المفاوضات من الجانب السوري على العودة إلى حدود فضّ الاشتباك أي حدود ما قبل سقوط نظام السابق.

كيف قوبلت تنازلات “الشرع”

وإذا نظرنا بعين الإنصاف بعيدا عن كل عصبية أو أحكام مسبقة، نرى أن “الشرع” لم يحصل من العرب والأمريكيين إلا على الكلام ولم يتلقّ إلا الوعود. ف”إسر/ئيل” لم تنسحب وصرّحت بأنها لن تنسحب من العديد من المناطق التي احتلتها في الجنوب السوري وخاصة من جبل الشيخ. وجاءت زيارة “نتنياهو” والمسؤولين “الإسرائيليين” مؤخرا إلى الجنوب السوري في إطار الرد على زيارة “الشرع” إلى البيت الأبيض، وجاءت لتقول إن الأمر في الجنوب السوري ل”إسر/ئيل” وحدها، ولن ينفع ضغط أمريكي –إن وُجد- في التأثير على الواقع الميداني.

وتجاوز الأمر إلى حد المطالبة بتقسيم سوريا إلى منطقة عازلة خالية من السكان في عمق عدة كيلومترات من الحدود، ومنطقة أمنية خالية من الجيش السوري والسلاح ول”إسر/ئيل” الحق في الدخول إليها متى شاءت ومتى ارتأت أن حاجتها الأمنية تقتضي ذلك، وهذه المنطقة تمتد إلى مشارف دمشق بمساحة تتجاوز مساحة لبنان. وباقي سوريا يبقى تحت سيطرة الحكم الجديد مع المحافظة على حرية حركة شاملة للطيران “الإسر/ئيلي”. ولعل هذا المطلب والتقسيم هو الذي لن يسمح بالوصول إلى اتفاق قريب لما يشكل من تهديد مباشر للأمن القومي التركي وللمشروع العثماني في المنطقة.

وإذا غضّينا الطرف عن الموضوعين العسكري والأمني وقلنا بعدم قدرة أي طرف على لجم التغوّل “الإسر/ئيلي”، وقمنا بالتركيز على المستوى الاقتصادي الذي نال حصة كبيرة من الوعود والإغراءات، نرى أن الخناق لم يُفكّ بعد عن الحكومة السورية، فالعقوبات الأمريكية عُلّقت مؤقتا ولم تُرفع. كما إن الاستثمارات والمشاريع التنموية لم تبدأ بعد، إذ إن رأس المال جبان، ولن يقوم أحد بالاستثمار في بلد يتعرض للقصف بشكل شبه يومي وما زال محل تنافس بين جهات ودول مختلفة. وبات الوضع المعيشي للسوريين أسوأ بكثير مما كان عليه أيام النظام السابق، وأسعار السلع الأساسية خير شاهد على ذلك.

ماذا لو طبقنا ما جرى في سوريا على لبنان؟

لا يستطيع لبنان -ولو أراد- تقديم ما قام الحكم الجديد في سوريا بتقديمه من تنازلات وخدمات مجانية ل”إسر/ئيل” وأمريكا، إذ لم يمثل لبنان الدولة يوما ما كانت تمثله الدولة السورية سابقا في محور المواجة للهيمنة الأمريكية. وعليه فإن ما حصل عليه الحكم في سوريا هو أقصى ما يمكن أن يطمح إليه لبنان في حال تقديم كل التنازلات المطلوبة منه.

نستطيع إذا من خلال ملاحظة التنازلات و”المكتسبات” في سوريا أن نستنتج ما يمكن أن يحصل عليه لبنان افتراضيا. فالنتيجة ستكون منطقة عازلة خالية من البشر والحجر تشمل عشرات القرى والبلدات، ومنطقة نفوذ أمني “إسر/ئيلي” خالية من الجيش اللبناني حتى نهر الليطاني، وإبقاء الأجواء اللبنانية مفتوحة أمام حرية الحركة الجوية “الإسر/ئيلية”. كل هذا مع استمرار “إسر/ئيل” بالقضاء على كل ما تعدّه تهديدا لها بعد إضفاء الشرعية على عدوانها من خلال توقيع اتفاق أمني يضمن لها ذلك.

كما لن يبصر لبنان نور الاستثمارات وإعادة الإعمار ورفع القيود باختلاق حجج متنوعة كعدم توفر الظروف الأمنية المناسبة أو عدم اكتمال حصر السلاح أو وجود فلول متمردة على المسار الجديد وغيرها. سيكون الاتفاق إذا استسلاما كاملا وتخليا مطلقا عن كل أوراق القوة من أجل لا شيء إلا السماح للبنانيين بالبقاء على قيد الحياة يأكلون ويشربون ما استطاعوا إليه سبيلا مع فتات مساعدات قد تصل إليهم. وربما يتم إنذار رئيس الجمهورية بضرورة إخلاء القصر الرئاسي قبل قصفه (إذا شاءت “إسر/ئيل” ذلك) من باب المكتسبات أيضا.

من حسن الحظ أن الحكم في سوريا سبق لبنان إلى المفاوضات حتى يثبت لمن كان يؤمن في لبنان بتحصيل المكاسب عبر التفاوض زيف هذا الادعاء وتهاويه أمام الواقع. ولمن كان يقول للبنان: هاكم النموذج السوري فطبقوه تسعدوا، بات لسان حال اللبنانيين يقول له: إليك عنا، فمن يكن الغراب له دليلا، يمرّ به على جِيف الكلاب.

حسن علاء الدين-لبنان