تقرير:أمّ تبحث عن بقايا حياة بعد أن خطفت المجزرة عائلتها

كريمة شهاب_الهدف

لم تكن نهى شحتو تتوقع أن يتحوّل مساء الخميس إلى نقطة فاصلة في حياتها، دقائق قليلة كانت كافية لتبديل دفء منزلها إلى جحيم، بعدما مزّق صاروخٌ صمت البيت وأحال عائلتها إلى ذكرى معلّقة في الهواء، وبين النار والغبار، وجدت نهى نفسها تحاول الزحف، تجرّ جسدها المصاب، وتبحث بيأس عن أصوات كانت تملأ المكان قبل لحظات.
في ذلك المساء، لم تكن نهى تدرك أن الوجبة التي حضرتها لعائلتها ستكون الأخيرة، عند الخامسة مساءً، سقط الصاروخ في قلب غرفة المعيشة، فقتل الجميع باستثناء طفل واحد علي، الذي قذفه الانفجار إلى سطح الجيران حيث وجد نفسه وحيدًا يواجه الخوف والصدمة.
تقول نهى بصوت لم يهدأ رجفه: “لفّيت البيت كله… مكان ما ظلّ مكانه، كل شيء كان طاير، كانت تلك الكلمات تختصر لحظة انهار فيها كل ما تحتفظ به من حياة.
لحظات قبل أن ينهار كل شيء
تحاول نهى استعادة تلك الثواني الثقيلة: “طلعت أدور على جوزي وبناتي وإخوتي… ما كان في صوت، بس دخان وسواد وصمت يخوّف، ناديت الناس يساعدوني يمكن ألاقي حد عايش.”
لكن البحث لم يقدها إلا إلى الحقيقة القاسية بناتها استشهدن، وأقاربها تناثروا بين الركام، وأجساد أحبّتها اختفت تحت الأنقاض، تضيف نهى: “أنا وعلي بس ضلّينا… الباقي راحوا.”
وبينما كانت تصعد درجات السلم في محاولة لفهم ما يجري، سمعت صوتًا ضعيفًا يناديها. رفعت رأسها، فرأت علي يلوّح بيده من على سطح منزل الجيران: “يمّا… أنا هون!”، صرخت نهى حينها للناس من حولها: “علي فوق… لسه عايش! خلّصوه بسرعة!”
صوت طفل… يهزّ قلوب الغزيين
انتشر مقطع لعلي وهو يشير بيده طالبًا النجدة، مشهدٌ جسّد حجم الرعب الذي يعيشه أطفال غزة كل يوم، الطفل ذو الأعوام الستة فقد والده وشقيقاته وأبناء عمومته في لحظة واحدة، ونجا ليحمل ذاكرة تفوق طاقة عمره.
وتقول نهى بأسى: “بناتي اتقطعوا… ما عرفنا شو اللي ضرب البيت. الاحتلال دايمًا بلاقي طريقة يقتلنا”، وتتابع: “الأولاد كانوا يشاهدوا كرتون، بثواني السقف وقع فوقهم، الصاروخ نزل في الصالون… المكان اللي كانوا فيه كلهم.”
في ذلك الهجوم، قُتل عشرة أطفال، بينهم بنات نهى، وأطفال شقيقيها محمد وأختها، تسأل نهى بحرقة: “شو كان ذنبهم؟ ليش أطفال بهالعمر ينقصفوا؟”
صمود ينتفض من بين الأنقاض
قصة نهى ليست حالة فردية في غزة، لكنها نموذج لامرأة أصابها الموت بكل قوته، ولم يمنعها ذلك من التمسّك بما تبقّى لها، حملت علي بين ذراعيها بعد استخراجِه، وغادرت المنزل الذي تحوّل إلى قبر جماعي، لتبدأ رحلة نزوح جديدة، تضيف نهى: “علي هو اللي ضل إلي… هو الحياة اللي لازم أبدأها من أول وجديد.”
نور ضئيل… يفتح باب الغد
اليوم، تجلس نهى قرب خيمتها، تراقب علي وهو يحاول اللعب كأنه يبحث عن مساحة ينسا فيها ما رآه، ورغم الجروح التي لم تلتئم، تبدأ نهى بصنع ملامح حياة جديدة، ولو كانت من خيط رفيع، وتختم نهى : “مهما صار فينا… لازم نرجع نوقف، ما في غير إنو نكمّل.”
نهى شحتو ليست مجرد ناجية من القصف؛ إنها أم تمسك بيد طفلها الناجي وباليد الأخرى تمسك بإرادة قوية وعزيمة لا تلين لإعادة بناء حياتها وحياة ابنها من جديد، رغم الحزن الذي يثقل قلبها، ترفض الاستسلام لليأس، وتصر على مواجهة المصاعب والتحديات التي فرضتها عليها الحرب، من أجل أن تمنح طفلها فرصة للحياة الكريمة والأمل بمستقبل أفضل، حتى في ظل واقع صعب مليء بالمخاطر والألم.