الشهداء… أَنَذْكُرُهُم أَمْ نَقْتَفِي أَثَرَهُم؟
عبير عبدالحكيم الجنيد.
الفجرُ الذي وُلِدَ من البارود:
في ذلك الصباح، حيث كانت رائحةُ التراب تختلطُ بعبقِ البارود، وقفتُ أرى الحياةَ تنبضُ في عيني أخي وهو يعدُّ عُدَّةَ الموت…
لم يكن يُهيّئُ رحيلًا، بل كان يُحضّرُ لميلادٍ جديد.
كنتُ أراه يلبسُ سلاحَه كما يلبسُ المؤمنُ يقينَه، ويودِّعُ الدنيا كما يودِّعُ العارفُ ظلًّا لم يعد يعنيه من الضوء شيء.
قلتُ له، وفي قلبي رعشةُ الفقدِ قبلَ أن يقع:أخافُ أن يصيبكَ مكروه، فكيفَ أعيشُ في دنيا يخلو فيها وجودُك؟”

فابتسمَ ابتسامةَ من فهمَ سرَّ الوجود، وقال:
“الخسارةُ ليست أنْ نموت، بل أن نخسرَ أنفسَنا يومَ القيامة.
الفوزُ الحقيقيُّ ليس أنْ نبقى هنا، بل أن نصلَ هناك… حيثُ لا خوفٌ ولا وداع.
إنّ المحبّةَ الحقّةَ لا تُقاسُ بالبقاء، بل بالخلود. والدنيا ظلٌّ زائل، أمّا الموتُ في سبيلِ الله، فحياةٌ لا تُطفأ.”
همسَ بكلماته، وانطلقَ إلى الأفق، تاركًا لي درسًا لا تدرِّسه مدارسُ الأرض…
درسًا مفادُه أنَّ الذينَ يذهبون في سبيلِ الله لا يرحلون، بل يُقيمون فينا بشكلٍ آخر.
هم رحلوا… لتبقى كرامتُنا وطنًا لا يرحل.

الآيةُ التي تتنزّلُ دماءً:
لم أُدرِك يومها ما عنى، حتى قرأتُ قولَ الله تعالى:
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.
حينها أدركتُ أنَّه كان يرى بعينٍ غير التي نرى بها، ويسمعُ نداءَ الأبديةِ ونحنُ غارقونَ في صدى الفناء.
لقد خسرناهُ جسدًا، لكننا ربحناهُ معنىً خالدًا، فحالُهُ يحكيه القرآن:
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.

فيا شهداءنا، نحنُ نعلم، والله نعلمُ مقامَكم عند الله، نعلمُ أنَّ أرواحَكم صارتْ مشاعلَ نورٍ في ظلماتِ هذا العالم.
ذكراكم تُسكِّنُ القلب، لا لتُخدّره، بل لتوقظه من غفلته.
أنتم لستمْ حكاياتٍ تُروى، بل آياتٌ تتنزّلُ كلَّ يومٍ في ضميرِ الأحرار.
أنتم الذين حوّلتمُ الموتَ إلى معنى، والرحيلَ إلى استمرار.

الشهادة… مدرسةُ العطاءِ والوعي:

الشهادة ليست نهايةَ جسد، بل هي ذروةُ انتصارِ الروحِ على ماديّةِ الوجود.
إنها الانزياحُ الفريدُ الذي يجعلُ من الموت حياةً، ومن الصمتِ خطابًا، ومن العدمِ خلودًا.
الشهداءُ علّمونا أنَّ الإنسانَ لا يُقاسُ بما يملكُ، بل بما يُقدِّم.
وأنَّ من يهبُ نفسَه لله، لا يخسرُها، بل يكتشفُ حقيقتَها الأولى.
هم الذين جعلوا من الدمعِ دربًا، ومن القبرِ منارةً، ومن الدماءِ جسورًا إلى السّماء.
قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.

فأيُّ مقامٍ أعظمُ من مقامِ من باعَ الفناءَ ليشتريَ البقاء؟
وأيُّ خلدٍ أبهى من خلدِ من سكنَ قلبَ الله راضيًا مرضيًّا؟
هم شموعٌ أطفأها القدرُ كي تُضيءَ دروبَ الأُمّة.

الشهادة: حيثُ يُولَدُ الوعيُ من رحمِ الفقد:
ليستِ الشهادةُ طلقةً تُطلق، بل فكرةٌ تُخلّد.
هي بذرةُ وعيٍ تنغرسُ في تربةِ الأُمّة، فتُنبتُ أجيالًا تعرفُ معنى الكرامة، وتُدركُ أنَّ الأوطانَ لا تُصانُ إلا بالدمِ الطاهرِ والضميرِ المستيقظ.
الشهداءُ لا يموتون، إنهم يوسّعونَ فينا معنى الحياة.
كلُّ شهيدٍ يولدُ فينا ضميرًا جديدًا، وكلُّ دمعةٍ على وجوهِ الأمهاتِ تتحوّلُ إلى نداءٍ يوقظُ الأرضَ من سباتها.
في زمنٍ باعَ فيه كثيرونَ مواقفَهم، اشترى الشهيدُ مجدَهُ بدمه، ليقولَ للغافلين:
“هكذا يكونُ النصرُ، وهكذا تُصنعُ الأوطان.”

ولأنّ العظماءَ لا يموتون، تبقى ذكراهم نبراسًا للأحرار، تقلقُ المستكبرين وتفضحُ جبروتهم كلّما اشتعلتْ في الأرضِ شرارةُ وعيٍ جديدة.
فالشهداءُ لا يُنْهِونَ المعركة، بل يُعيدونَ تعريفَها.
هم لم يُغادروا الحياة… بل غادَروا حدودَها الضيّقة.
فليكن دمُهم… وقودَ ثورةِ الوعيِ فينا:
فليكن دمُهم ليس مجرّدَ ذكرى، بل وقودًا لثورةِ الوعيِ فينا،
ولْيكن رحيلُهم إيذانًا بميلادِنا نحن…
جيلًا لا يخشى الموت، لأنّه عرف أن الحياةَ الحقيقيةَ لا تُستحقّ إلا بثمنٍ يساوي الأبدية.
فليكن وعدُنا لهم أن نحملَ الرايةَ حيثُ تركوها، وأن نُكملَ السعيَ الذي بدأوه، وأن نبقى أوفياءَ لدمائهم الطاهرة.
فما دامَ في الأرضِ دمُ شهيدٍ لم يجفّ بعد، فلن تسقطَ الكلمةُ، ولن يَخبوَ النور.
من دمِهم يُولَدُ النصر، ومن وصيّتِهم يُبنى الغد.