في زاوية من جبل جرزيم في نابلس انبثقت روح حرة عانقت الارض، وعاهدت التراب أن تصونه وتحمي ظله في السر والعلن.
هو نادر حد الذهول في زمن تشابهت فيه الأرواح، السامري الحر الذي تحدى الاحتلال بابتسامة وقلم، فوقفت الحرية خجولة أمام جبروته.
هو النادر السامري الحر الذي أثبت بالقول والفعل أن فلسطين للفلسطينين بغض النظر عن دياناته،
وأن إسرائيل هي لعبة قدر شيطاني مسرطن، عبثت بعدادت الزمن، فقلبت الحقيقة، زورت الماضي وشوهت الحاضر، وتسعى جاهدة لقتل المستقبل.
هو المثقف الجبهاوي، وقائد كتائب الشهيد أبو علي مصطفى في نابلس، المطارد الذي أصبح مع الوقت صاحب الظل الخفيف، استطاع أن يشكل حالة من التهديد للاحتلال كونه رفض الانعزال الطائفي.
درس التاريخ والآثار، واليوم يخلّد التاريخ اسمه النادر لينحني الزمن خجلاً أمام. وبعد ست مؤبدات دوّخت جيش الاحتلال تنفس نادر حريته اليوم، بروحه المرحة وابتسامته النادرة حوّل السجن إلى فضاء فكري حرّ. وبحالة من الشرود اللامنطقي التي اجتاحت الزنزان، تضاربت المشاعر حتى اهتزت الجدران. بين الهدوء والسكينة، بين النكران والذهول، انتزع نادر صدقة حريته بالتزام محارب.
خرج من زنزانة مقيتة متحدياً عهر الاحتلال، وشذوذ انتهاكاته، وغادر إلى منفاه حاملاً بين ذراعيه وطن بحجم المأساة
وفي حوار خاص لبوابة الهدف عدنا مع نادر صدقة بالذاكرة إلى يوم اعتقاله، فحدثنا عن تلك اللحظات التي عاشها، وكيف تلقى خبر حريته، وكيف يرى الحياة اليوم بعد الحرية، كما تحدث عن التحديات التي واجهها من المحتل بسبب انتمائه للطائفة السامرية، وكيف استطاع أن يحوّل العزلة إلى فضاء فكري حر. فكان معه الحوار التالي:
كيف تلقيت خبر الافراج عنك وهل كنت تتوقع هذا اليوم؟
كان عندي يقين أن هذا اليوم قادم، لا يمكن للأسير أن يصمد داخل الأسر إن كان لا يؤمن ولا يوقن بأن هناك يوم سيأتي وسيفتح ثغرة في الجدار، وهذا الشعور الذي اجتاحنا لحظة الإفراج هو نتيجة لتركم طبقات اليقين، وكأنك تراكم لبنة بعد لبنة على أرضية هشة، وتفتح في هذه الأرضية فجوة في جدار الحرية.
أما عن سؤالك كيف تلقيت خبر الإفراج، فقد تلقيته بهدوء، بسكينة باطمئنان، وأيضاً بشكل من أشكال عدم القدرة على استيعاب ما يدور في البداية، وإن كنت أريد أن أكون أكثر صدقاً، فقد تلقيت الخبر بأنكار، فحالة الإنكار التي تجتاح الكائن البشري في الأفراح وفي الأتراح هي التي تساعده على البقاء. لو كان الإنسان يدرك كل الأمور التي تدور حوله، لا أعتقد أنه يستطيع أن يصمد. ولكن على أرض الواقع فقد صدقت تواقعاتي وتحقق يقيني بأني خارج من الأسر لا محالة.
نعود بالذاكرة إلى يوم اعتقالك
كيف تصف لنا اللحظات الأولى التي مرت عليك؟
اللحظات الأولى التي مرت أثناء اعتقالي كانت مكثفة وثقيلة على الذهن وعلى البدن، والمضحك في القصة أن القوات الخاصة دخلت عليّ أثناء نومي، فقد صحوت على حدث اعتقالي، وشعرت في حالة من استعادة الأحداث الماضية مع حالة من الذهول مما يحدث متنقلة من حالة التصديق إلى حالة عدم التصديق، وهي شعور كأنك بين الحلم والصحو، هذه المشاعر المختلطة كانت من جهة. أما من الجهة الأخرى فكان هناك ضرورة البقاء على الأرض، والفهم بأن القادم هو أخطر وأنك بحاجة إلى أن تدرك وضعك جيداً. وأنه عليك أن تبدأ بالاستعداد لما هو قادم، لأن ما يحدث هو ما لم تستعد له كما يجب. وأنه يجب عليه أن تستعيد رباطة جأشك سريعاًَ، وأن تبدأ تفكر بالقادم
عشرون عاماً من الأسر، كيف تعاملت مع العزلة، وكيف أصبحت نظرتك للحياة، للحرية، للوطن؟
وهل راودتك لحظات من اليأس أو الرفض؟ وكيف تجاوزتها؟
التعامل مع العزلة في الأسر، أنت لا تملك ترف عدم التعامل، هي تحيطك من كل جانب، عدم التعامل معها وتجاهلها يؤدي بك إلى الوقوع في فخها من الأساس، بالتالي يجب أن تتعامل مع العزلة بنقيدها، أي بالاختلاط مع الناس، باحتضان كل ما حولك، بالتفاعل المستمر بينك وبين المحيط. العزلة سلاح خطير يهدف إلى التفرد بك، حين تكون وحيداً ومعزولاً ستكون هشاً تتأثر بكل المؤثرات السلبية التي يمكن أن تتعرض لها. وفهمك لهذه الحقيقة يعني تحالفك مع كل محيطك.
أما نظرتي للحياة والحرية وللوطن أصبحت أكثر حدة، وأكثر وضوحاً وأكثر اتساعاً. والنظر للحياة تصبح الشوق للمفقودات، والمفقودات داخل الأسر كثيرة، وطعم الحرية يصبح بمذاق الاشتياق لها وبمذاق فقدانها
أما الوطن داخل الأسر يصبح أكثر تركيباً وتعقيداً، ونظرتك للوطن تصبح بحاجة إلى الكثير من التصفية والتنقية، مع اختلاطتك بالآراء والفلسفات والمنطق الآخر ومحاولة استيعابها وتعايشك معها، كل هذا يجعل نظرتك أكثر منطقية من جهة، واستقلالية من جهة أخرى وقدرة على التعايش والتفاهم من الآخرين من جهة ثالثة.
أما عن لحظات اليأس، فأنا كائن بشري، واليأس جزء من مكون البشر كما هو الأمل تماماً، فمثلما نتشبث كبشر بالأمل أحياناً، يأتي وقت علينا ونشعر باليأس. أما اليأس يحارب ويهزم عن طريق الرفض. الرفض لكل محاولات كسرك ولكل محاولات إلغائك، إلغاء آدميتك وتفريغك من محتواك النضالي والثقافي والإنساني من جهة. والرفض لهذا النهج العام القائم ضد شعبك وضد وطنك وضد قضيتك من جهة أخرى. هذا هي اللحظات التي تُسلحك بشكل أو بآخر لمواجهة اليأس ولزرع الأمل. أما كيف تتجاوز، فهي ببساطة جدلية رفض اليأس.
4. ما الذي تغيّر فيك بعد الخروج؟
صف لنا ماهي الحرية بنظر نادر صدقة
كل شيء تغير فيي بعد الخروج، بدءاً من نظرتي للحياة مروراً باستيعابي لكثير من القصص وقرائتي لها من جديد، وتفهمي للحياة وتعقباتها وتركيبها، وهذا موضوعياً صحيح بحكم أن الانسان كائن مكتسب، وما اكتسبته في السجن محدود الأفق، بينما الحياة بتحدياتها وتعقيداتها وتحدياتها تختلف وتأثيرها يختلف
الحرية بنظري التزام، أولاً التزام تجاه قضيتك التي ناضلت من أجلها، وسجنت وتحررت لأجلها، ومازال الطريق مستمر. وثانياً تجاه مجتمعك وتجاه ذاتك. والتزامي بالحرية وعدم سقوطي في الكمائن التي يمكن أن تضعها أمامي الحياة، هو شكل من أشكال عدم الاستعباد لحريتي، أنا لا أريد أن أكن عبد لحريتي، أريد أن أكون انسان حر، بمنطق يسمح لي التحكم بذاتي بقدرمحدود، لكن مضمون السبل والنتائج
6. حين يذكر اسمك يذكر معه الوفاء والإخلاص
صديقك جهاد الذي اتفقت معه على قراءة رواية “وليمة لأعشاب البحر” للكاتب السوري حيدر حيدر، جهاد استشهد والرواية بقيت صامتة حتى اليوم
هل قرأ نادر الرواية بعد كل هذه السنوات؟
صديقي جهاد استشهد بين يدي صديقنا الثالث يامن في بداية أحداث انتفاضة الأقصى، كنت أنا والشهيد جهاد نتسابق لقراءة الكتب، وكانت رواية وليمة لأعشاب البحر مشهورة إعلامياً حيث تم تداوالها بشكل صاخب بتلك الفترة، واستطعت الحصول عليها من الأردن، وحين رأها جهاد أقسم أن يقرأها قبلي، لكنه استشهد قبل قراءتها وإلى الآن لم أقرأها، وهذا فيه نوع من الالتزام بما أقسم عليه صديق.
5. عرف عنك روحك المرحة وطاقتك الإيجابية التي تنتقل لبقية الأسرى بالعدوى
هل بالفعل هذه هي شخصيتك الحقيقية، أم هي شخصية خلقتها لتترجم ما بداخلك بطريقة عكسية؟
هذه طبيعتي طوال حياتي وهناك لحظات من الحزن تجتاح كلاً منا، لكن محاولة الحفاظ على مرحك وذاتك التي تعودت عليها هو تحدٍّ داخل الأسر بشروطه، ولا أعتقد أن الانسان يستطيع خلق شخصية لأنه بحكم الواقع الطبع غلب التطبع.
7. لُقّبت بـ”المفكر” داخل السجن
كيف تشكلت تلك الهوية الفكرية المتفردة؟
وكيف يمكن تحويل الزنزانة بعتمتها لفضاء من الحرية الفكرية؟
لقب مفكر هو لقب مبالغ فيه جداً، لا أدري من أين تأتي هذه الألقاب، لكن بالمحصلة تشكيل هويتي الفكرية المتفردةـ لا أعتقد أنها متفردة، فهي جزء من الهويات الفكرية التي تشكلت داخل السجن، وقد تشكلت عندي بجهد ذاتي، فالجبهة الثقافية كما قال الحكيم جورج حبش ، من العار علينا فقدانها. والحرص على تنمية مواهبك وشحذ ثقافتك الفكرية هي رسالة تتلقاها مبكراً حين تدخل إلى السجن وتعرف أنه سيأخذ منك كل شيء. وما تقرأه هو الشي الوحيد الذي تكسبه. وبالتالي العمل على تنمية ذاتك فكرياً هو رسالة تؤديها تجاه نفسك أولاً وتجاه الآخرين ثانياً، وأعتقد أن ثانياً هي أكثر أهمية وأكثر تعقيداً مما يخص ذاتك في هذه المهمة لأنك تريد أن تقرأ الفكرة وتحتضنها، ومن ثم تمريرها بعد ذلك للآخرين، وهذا يتطلب الكثير من الجهد، تحديداً إذا كانت الفكرة معقدة ومركبة، وهذا يحتاج إلى مواهب خاصة، بداية مواهب تستطيع من خلالها الوصول إلى أذهان من حولك، والقدرة على التأثير عليها بشكل إيجابي، وبالتالي الوصول إلى درجة قبول لديهم كي يسمعوك، لأنه في لحظة فقدان الاتصال مع من هم حولك، لن تستطع تمرير أي شيء، وهذه المواهب بالأساس هو مواهب اجتماعية أكثر من كونها مواهب فكرية.
لا يمكن تحويل الزنانة بعتمتها إلى فضاء من الحرية الفكرية، تبقى الزنزانة زنزانة أولاً وآخراً، لكن يمكن تغيير شروطها، والتخفيف من وطأتها، فالفكرة طليقة، أنت تستطيع إخراج الفكرة من الزنزانة لكنك لا تستطيع أن تحول الزنزانة إلى فضاء من الحرية. إخراج الفكرة من الزنزانة هو التحدي، ويتم ذلك بجهد مضني على المستوى الفردي وجهد خطر على المستوى الموضوعي، وكل مرة يتم اعتقال أفكارنا فيها كنا نتعرض لأشكال شتى من العقوبات. وكان التحدي في أن تنجح في صوغ الفكرة، صقلها، صيانتها، ومن ثم تمريرها للآخرين، وبعد ذلك إخراجها، وكل هذا يتطلب مواهب
8. الفكرة بحد ذاتها مقاومة
برأيك ما هو دور الثقافة في المقاومة؟
بالتأكييد لأننا لا نستطيع حجز الفكرة، وكونها تملك هذه الخاصية فهي تحمل من البعد الزمني أكبر من عمر حاملها، تحمل القدرة على الوصول أكثر من قدرة حاملها الفيزيائية، فهي تحمل مسار الاستمرار بالديمومة والتاثير. وكما قلت سابقاً البندقية غير المسيسة قاطعة طرق، وحالة التدهورالتي وصلت إليها الحالة السياسية الفلسطيينة من أهم اسبابها وعواملها تراجع مستوى الثقافة الكمي والنوعي، وهو تراجع خطير وممبرمج، وكأنه كان يجب تدمير جيل السبعين والثمانين بكل مكوانته الإنسانية، هذا الجيل الذي حمل على أكتافه ثورتين، وأهم مكون كان في هذا الصعيد هو المكون الثقافي، فكان دائماً شعار الثورة الفلسطينية هو انعدام الأمية في الشاع الفلسطيين في مرحلة من المراحل، بينما اليوم الأمية هي نوع من الصفات العضوية عموماً والفلسطينية خصوصاً، وهذا يجعل الدور الثقافة في المقاومة أكثر حدّة وأكثر وضوحاً، حيث يبدو العمل المقاوم عمل بدني وعضلي بالأساس، ولكن ذلك كله بدون العقل والإرادة والوعي يسقط في كل الكمائن الممكنة.
افخاخ الذاتي والموضوعي في غياب الثقافة تصبح أكثر وأخطر وأعمق، ونتائجها على كل الصعد تبدو جلية في الحالة الراهنة على كل الصعد، فاليوم الرافد الثقافي للثورة الفلسيطينية شحيح وضئيل وفقير، وهذا يجعل كل السياقات مؤلمة والنتائج أكثر ألماً.
نحن بحاجة إلى نفض الذات، والبحث عن سبل تجعل من الممكن إعادة الزخم للوضع الثقافي التوعوي، وهذه مهمة تقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني، وتحديداً التنظيمات السياسية التي عليها التوعية قبل التنظيم.
9. إن الطائفة السامرية التي تنتمي اليها دينياً تُعتبر هي الامتداد الحقيقي لبني إسرائيل وهي متجذرة في فلسطين منذ فجر التاريخ، عكس ما يدعيه الاحتلال من أحقية المستوطنين
ماهي رسالتك لأبناء طائفتك ولليهود في العالم؟
لا أستطيع تقديم رسالة الى يهود العالم، أُفضل أن تكون رسالتي أكثر أممية وأكثر إنسانية، والتركيز على هذا الجانب المحدد في بنية تكويني الشخصية على أنني يهودي سامري أُقدره وأفهم دوافعه، ولكن أنا أقدم رسالة إلى الإنسان كأي ثوري في العالم يستطيع مخاطبة الإنسانية بنضاله وطموحه وفكره وآماله، وإن كان هناك يهودي أو سامري يريد أن يسمعها فهذا شأنه، ولكن لن أوجه هذه الرسالة بصفتي السامرية لأي يهودي بشكل خاص.
أخاطب اليوم الإنسانية لأقول أن كم الفاشية والسادية التي تعرض لها شعبنا في العامين الأخيرين، يتطلب وقفة إنسانية كحد أدنى، وقفة ليس في إدانة إسرائيل فقط أو العمل على محاصرتها في السياقات الدولية فحسب، فهذا على أهميته بالنسبة لأهل غزة الذين يعانون الفقر والجوع والتشرد، لا يثمن ولا يغني عن جوع.
الإشكالية تكمل في الوقوف إلى جانب المضطهد ودعمه بكل السبل واستنهاض هممه، فشكل التضامن الموجود في العالم اليوم يجعلني أفكر بمقولة أن الانسان النائم إذا تقلب من جنب إلى جنب هذا لا يعني أنه يصحو، والعالم اليوم يتقلب في نوم عميق.
فالأهم اليوم هو استعادة إنسانية الإنسان وإن كان للإنسانية من معنى في هذا السياق فيجب علينا البحث عن سبل لاستعادة إنسانية أهلنا في القطاع الصامد، هذا المشعل الذي يرفض الإنطفاء، والذي يحاول الصمود والبقاء رغم كل وحشية الاحتلال.
10. هل أثّر انتماءك إلى الطائفة السامرية على علاقتك بباقي الأسرى؟ أو عرضك لمضايقات من الاحتلال أو ربما لتمييز داخل السجن؟
انتمائي للطائفة السامرية لم يؤثر أبداً على علاقتي بباقي الأسرى، فكان هناك نوع من الاحتضان الغامر طوال سنوات أسري، صحيح أن هذا الجانب كان استثنائي كوني الاستثناء في هذا الجانب، وكان له دور في التعاطي الحاضن من بقية الأسرى
لكن من جانب آخر كان لي دوري في السياق النضالي وعملي في المهام التنظيمية، فلم يكن هناك أي مضايقات أو تميز سلبي، كنت مناضل أتعرض لما يتعرض له بقية المناضلين.
11. لو خُيّرت أن تختصر تجربتك بكلمة واحدة، ماذا تقول؟
الكلمة هي التجربة، لكن يمكن فهم التجربة على أنها سياق واعي حاول الانتقال إلى مستوى التنفيذي
قاسى ما قاساه، وعانى ما عاناه، وأنجز ما أنجز، نجح هنا وفشل هناك، علِق هنا ونجا هناك، تعلم هنا وأخفق هناك.
مجلة الهدف
