إلى أحمد سعدات..
بقلم:الرفيق مروان عبد العال
نعرف أنّ هذه الكلمات قد لا تصل إليك، ولكنها ضرورة، لأنها صرخة ضمير لا يُحتمل كتمانها. فغزة حررت العالم وحررت بعضاً من قيودنا، بدمها المهراق العزيز الذي يصرخ بالشمس ويذكّرنا بأن الحرية لا تولد في ساعة ترف بل في المدى المفتوح بين الحياة والموت. غير أن الجلاد أدمن ضحاياه، وتوقف عند الأوزان الثقيلة التي لا يقوى على حملها، حين يحاول أن يفتّت ملف الأسرى بتقسيم الأسماء وترتيب القوائم. تلك المحاولات ليست مجرد أوراق بل وسيلة من وسائل الحرب لكسر عزيمة شعبنا، وتحويل الأسر إلى خريطة جديدة من التجزئة.
كنت تلحّ أننا لن نسمح لهم أن يفرّقوا الأسرى كما فرّقوا شعبنا إلى أجزاء وأرضنا إلى كانتونات. لقد حذّرتنا، يا رفيق، من جغرفة السجن، من أن نصبح خرائط داخل جدار، ومن أن يُرسم القيد بخط مستقيم على جسد الوطن. ستظلّ لنا القائد والرفيق والابن البار لشعبٍ ما برح يناضل من أجل الشمس.
قيل إنّ الشمس هي التي تلد الظلال، وإنّ الظلال ليست غياب الضوء بل محراب الوعي ومختبر الصبر. مَن عاش في الظلال يعرف أن مَن يقف في الضوء مكشوف، وأنّ النور الكامل يحرق قبل أن يضيء، وأنّ الحرّية ليست مجرّد وقوف تحت شعاع بل قدرة على الصمود فيه. لذلك كانت تجربتك، منذ فجرها الأول، درساً في التوازن بين النور والظل، بين الموقف والفكرة، بين أن تكون الإنسان والفعل معاً.
كل العيون كانت ترنو إليك، وليس غريباً أن يهتف الآلاف باسمك وأن تُرفع صورك في ميادين العالم. فأنت أيقونة النضال ورمز المقاومة الذي جعل من حرّيته الشخصية ثمناً لحرّية شعبه. أصبحت الشمس والظلّ معاً، رمزاً للنضال الذي لا ينكسر، ولنور الولادة المنبعث من دم وحلم وصبر وتضحيات. كنت وما تزال تتقدّم الصفوف، أوّل مَن يبادر وأوّل مَن يقاتل، القائد الإنسان الذي امتلك الرؤية الفكرية الكفاحية الصائبة، يدرك بأعماقه أنّ الحرّية لا تُمنح كما يُمنح الضوء، بل تُنتزع كما تُنتزع الروح من صمت العتمة. التجربة التي صهرتك، حوّلتك إلى نموذج حيّ للوعي المقاوم، حيث العدالة تصبح نبض الوجود، لا الرتبة ولا المنصب.
درسُك في النضال أبقى من أي خطاب أو فذلكة أو تهافت مفضوح، لأنّ الثورة ليست صرخة في قربة مثقوبة ولا انفعالاً مؤقتاً، بل وعي مستمرّ تتشابك فيه الذاكرة والإرادة والضمير، فتتحوّل المقاومة إلى حياة، وجدوى يولد فيها الدم والفكر من الجذر ذاته، ويتنفّس الإنسان فيها مع مبادئه. في هذا الالتحام بين الشمس والظلّ، بين الضمير والنضال، بين الاختفاء والمطاردة، بين القيد والسجّان، تتوهّج الحرّية كروح لا تنثني، وترسو العدالة كمرساة للصمود والبقاء والوجود.
يا أحمد العربي، علّمتنا أنّ القوة الحقيقية تكمن في الوفاء للفكرة، وأنّ أمانة الفكر تُقاس بالصبر والمقاومة والوفاء للمبادئ حتى في أقسى الزنازين وأعمق الظلال. لم تكن تفكّر في الفعل بل كنت الفعل ذاته: حياة تتحرّك ووعي يتجسّد وضمير يصرّ على البقاء حيّاً.
تجربة الزنازين صهرت وعيك وجعلتك مدرسة للوحدة. كنت تعرف أنّ الهزيمة تتحوّل إلى درس عندما تصبح القيادة جزءاً من الأزمة، وأنّ النصر الذي لا يصير وعياً هو هزيمة مؤجّلة، وأنّ الهزيمة التي تُفهم بصدق هي البذرة الأولى لانتصار جديد. المعركة ليست على حدود الجغرافيا بل في تخوم الوعي، والانتصار الحق هو ما يتحوّل إلى ضمير يقظ يقاوم النسيان والتطبيع والانكسار.
أبو غسان، أنت الصرخة الثورية التي تذكّر العالم بأنّ الثورة ليست فكرة فقط ولا خياراً، بل واجب إنساني أيضاً، هي خطّ الدفاع المتقدّم عن كرامة الإنسان في مواجهة التوحّش والاحتلال والاستعمار
أبو غسان، أنت الصرخة الثورية التي تذكّر العالم بأنّ الثورة ليست فكرة فقط ولا خياراً، بل واجب إنساني أيضاً، هي خطّ الدفاع المتقدّم عن كرامة الإنسان في مواجهة التوحّش والاحتلال والاستعمار. أنت الأسير الذي جعل من الزنزانة مدرسةً للحرّية، ومن العزل الانفرادي امتحاناً لصلابة الروح. كما قال هوشي منه: «إنّ ما في السجن جسدك، لا روحك، فاحفظ القلب سليماً تنجز الأمر العظيم». لقد جعلتم من السجن فضاءً للكرامة ومن الألم مختبراً للوعي.
لقد تخرّج من جامعات السجن، الكتّابُ والروائيون والفنانون والباحثون والقادة المثقفون والثوريون المميزون والشهداء، تحوّلت كتاباتكم الإبداعية من تجربة شخصية إلى وعي جمعي، من صمت الحديد إلى صوت بلا حدود. كنت تعرف أنّ التعذيب ليس انتهاكاً للجسد فحسب، بل جريمة ضدّ فكرة الإنسان ذاتها، وأنّ الحرية تُنتزع من صبر الإنسان ووفائه لمبادئه.
وفي فلسطين، الحاضرة أبداً في الوجدان، لم يكن السابع من أكتوبر بدايةً للصراع، بل كما رأته جبهتك الشعبية، انفجاراً تاريخياً كاشفاً، جاء بعد عقودٍ من الحصار السياسي، والخنق الاجتماعي والجغرافي. تحوّلت فلسطين إلى مرآةٍ للعالم وضميرٍ للإنسانية، تكشف زيف العدل المزعوم، وتعيد تعريف الحرّية بوصفها فعلَ مقاومةٍ ضدّ الإبادة والنسيان.

وقوى اليسار الذي كتبنا حروفه بالدم يقدّم درساً عالمياً: أنّ التحالف في مواجهة الإمبريالية أعمق من أي أيديولوجيا، وأنّ المقاومة الحقيقية هي التي تحوّل الوعي التاريخي إلى فعلٍ حضاريٍّ يحفظ الإنسان قبل الفكرة المقاومة، ليست حدثاً عابراً، بل فلسفة وجود وصرخة كرامة. احفظ روح الحزب حيّة، وابعث العمل اليومي شهادة على قيمك، ولا تسمح للظلم أو الخيانة أن تضعف عزيمتك. فالبطولة ليست في اللحظات الكبرى فحسب، بل في كل فعل صغير يعيد بناء المعنى ويقوّي إرادة المناضلين.
نحن، رفاقك، يهدونك السلام، لقد تغيّرت ملامحهم كثيراً، نعم، لكن قناعاتهم لم تتغيّر أبداً. كأن الزمن مرّ فوق وجوههم دون أن يترك أثره في أعماقهم. تجاعيد جديدة وابتسامات قديمة، والنظرة ذاتها التي لم تتعلّم من العواصف سوى الثبات. كميل ونادر وأحمد وهاني وباسم وناصر والجميع يهمسون بأن السماء اليوم أكثر زرقة، وأنّ كل شروق يحمل حضورهم وحبّهم ودعاءهم لك بالثبات والصبر. إنهم ليسوا ذكريات، بل نبع قوّة يعانق روحك ويمنحك الشجاعة لمواصلة المسير.
لا تُطل الغياب يا أحمد العربي، ستحرّر نفسك بنفسك، كما الذين سبقوك إلى الحرّية يهمسون من بين السحب: السماء أكثر زرقة، والريح تحمل نداءاتهم لتشدّ عزيمتك. وتحية إلى روح القافلة الطويلة من أبطال الحرّية شهداء الأسر، وفي مقدّمتهم إبراهيم الراعي و«فوتشيك فلسطين» والصقر نادر العفوري والمفكّر الشهيد وليد دقة.
وخالص التحية إلى مروان البرغوثي الذي تقف خلفه زوجة كالجبل، وعاهد أبو غلمة رفيق دربك، ومنذر مفلح ووائل ووليد حناتشة، فجميعهم كما قال جورج حبش : «رفاقنا الحقيقيون هناك، في سجون العدو، وعندما يخرجون سترون ذلك».
أبو غسان، كل يوم شهادة حيّة على حجم الحبّ من عائلة أمّ غسان والبنات والأبناء والأحفاد والرفاق وشعبك وعشّاق الحرّية في العالم. لن يمرّ الفاشيست ما دامت أشعّة الشمس تتراقص على وجنتيك وتلمس قلبك الدافئ بصمتهم الأبدي. ومهما ضاقت الزنزانة، فأنت لست وحيداً في رحلتك، لأنّ في كل شروق يولد من صبرك وطن عظيم.