من التعتيم إلى الانكشاف: لحظة سقوط الأقنعة
لسنواتٍ طويلة، عاشت القضية الفلسطينية في ظلال التعتيم والتهميش، وسط حملات التطبيع الإعلامي والسياسي، ومحاولاتٍ ممنهجة لطمس الحقائق وتزييف التاريخ. بدا وكأنّ العالم نسي أنّ هناك احتلالاً يقضم أرضاً كلّ يوم، وأنّ هناك شعباً يُقتل ببطء خلف جدران الحصار.
لكنّ الحرب الأخيرة على غزة كسرت هذا الصمت المظلم، وفتحت نوافذ الوعي على مصراعيها. فمع البثّ المباشر، وسيل الصور الحيّة من قلب الدمار، لم يعد بالإمكان التلاعب بالرواية أو إخفاء الجرائم. العالم كلّه شاهد، وتبدّد الزيف الذي طالما تغنّت به إسرائيل عن “ديمقراطيتها”. لقد انكشفت حقيقتها أمام الإنسانية: دولة احتلال تمارس الفصل العنصري والإبادة، وتقدّم نفسها بوجهٍ مزيّف للعالم.
وعي جديد يولد من تحت الركام
من رحم المأساة ووسط الركام، وُلد وعي جديد. لم يعد التضامن مع فلسطين مجرّد موجة عاطفية أو موقفٍ موسمي، بل تحوّل إلى صحوة فكرية عالمية، وإدراكٍ عميق لمعنى العدالة.
جيلٌ كامل من الشباب حول العالم، كان مغيّباً عن تفاصيل الصراع، وجد نفسه أمام مشهدٍ لا يمكن تبريره أو تجاهله. لم يعد يسمع عن الاحتلال عبر الأخبار، بل شاهده حيّاً على الشاشات، يتجسّد في بيتٍ يُقصف، وأمٍّ تبحث عن طفلها، وطبيبٍ يعمل على ضوء شمعة.
وهكذا، تبلورت لدى هذا الجيل حساسية جديدة تجاه الظلم، وإصرار على فضح المعايير المزدوجة التي حكمت السياسة والإعلام لعقود. أصبح الفلسطيني رمزاً للكرامة في وجه القهر، وأصبحت غزة عنواناً للصمود لا للمأساة.
الجيل المغيّب يعود إلى الواجهة: وعي يتجدد بعد الغياب
قبل الحرب، كانت الأجيال العربية الشابة تُربّى على الانشغال بقضايا سطحية، وعلى فصل وعيها عن جذورها. لكنّ الحرب على غزة أعادت البوصلة إلى مكانها الصحيح.
وجد هذا الجيل نفسه أمام سؤالٍ كبير: من نحن؟ ولماذا يُقتل الأبرياء؟ ولماذا تُنسى فلسطين كلّما اشتعلت المعارك الأخرى؟
ومن هنا، بدأت عملية إعادة تشكيل الوعي العربي.
تحوّلت وسائل التواصل إلى جبهات مواجهة، تُنشر فيها الحقائق وتُكسر الأكاذيب، وبرزت مبادرات شبابية توثّق الجرائم، تترجم الشهادات، وتُخاطب العالم بلغاته.
لم يكن ذلك تنظيماً سياسياً بقدر ما كان انتفاضة فكرية، مدفوعة بالشعور بالكرامة والواجب الإنساني.
لقد أدرك الشباب أنّ الصراع مع الاحتلال ليس فقط على الأرض، بل على الرواية والذاكرة، وأنّ حماية الوعي جزء من المقاومة ذاتها.
انعكاسات الحرب على الوعي الإنساني العالمي
للمرة الأولى منذ عقود، تحرّكت ضمائر الشعوب الغربية بهذا الشكل الهائل.
شهدنا مظاهرات في مدنٍ أوروبية وأمريكية كبرى، ووقف آلاف المثقفين والفنانين والأكاديميين إلى جانب الشعب الفلسطيني، متحدّين الرقابة الإعلامية والضغوط السياسية.
لم يعد الخطاب الغربي كما كان؛ بدأ يراجع نفسه، وظهرت أصوات تفضح الكيل بمكيالين في التعامل مع دماء البشر.
تحوّلت غزة إلى مرآةٍ أخلاقية للعالم، تكشف من يقف مع قيم العدالة، ومن يبرّر القتل باسم “الدفاع عن النفس”.
بهذا المعنى، لم تعد فلسطين قضية العرب وحدهم، بل صارت قضية الإنسانية جمعاء.
هي معركة بين منطق القوة ومنطق الحق، بين من يملك السلاح ومن يملك الحقيقة.
من الغياب إلى الحضور: فلسطين تعود إلى الوعي الجمعي
اليوم، لا يمكن لأيّ خطابٍ سياسي أو ثقافي أن يتجاهل فلسطين.
عادت إلى النبض، إلى الأغاني، إلى القصائد، إلى لغة الشعوب التي كانت تُقاد إلى النسيان.
فلسطين اليوم ليست مجرد خريطة، بل حالة وعي متجذّرة، تُذكّر كلّ حرّ بأنّ الظلم لا يُمحى بالوقت، وأنّ من يزرع المقاومة يزرع الحياة.
الحرب على غزة كانت مؤلمة، لكنها كانت أيضاً ولّادة.
أنجبت جيلاً جديداً لا يخاف من قول الحقيقة، ولا يقبل أن يُزوّر وعيه بعد اليوم. جيلٌ يرى في غزة مدرسةً للكرامة، وفي فلسطين ميزاناً للإنسانية.
حين تصحو الضمائر من تحت الركام
من بين الغبار والرماد، من قلب الأصوات المبحوحة تحت الأنقاض، نهضت الضمائر من سباتها الطويل.
لم توقظ غزة العالم بصوت السلاح، بل بصوت الأم التي تمسح دموعها لتكمل صمودها، وبعين الطفل الذي لم يفقد الإيمان رغم كلّ شيء.
تعلّم العالم أنّ الفلسطيني ليس ضحيةً ينتظر الشفقة، بل هو رمزٌ للثبات والكرامة، وأنّ الدم الذي سال لم يُهدر، بل صار حبراً جديداً يكتب ذاكرة الوعي الإنساني.
لقد سقطت الأقنعة، وتهاوت جدران الزيف، وبدأت البشرية ترى نفسها في مرآة غزة: من انحاز للحقّ، ومن صمت خوفاً أو نفاقاً.
هذه الحرب، رغم قسوتها، أعادت ترتيب أولويات العالم، وذكّرتنا بأنّ القوة لا تصنع الحق، وأنّ الشعوب وإن حوصرت جسداً، لا تُهزم وعياً.
فمن تحت الركام تولد الحقيقة،
ومن رحم المأساة تُبعث الحياة،
بحبرٍ اسمه فلسطين،
وبصوتٍ يقول:
“ما دام فينا وعي، لن تُهزم القضية.”
فاتنة علي-لبنان