في مشهدٍ يمكن وصفه بأنه احتفالٌ رسمي بالدم، صعد دونالد ترامب إلى منصة الكنيست التابع للكيان الصهيوني، وألقى خطاباً حمل كل ملامح الغطرسة السياسية والنرجسية. كان يتحدث وكأنه قائد لتحالفٍ جديد لا يعترف بالقانون ولا بالعقل، بل يرى في القوة معياراً للحق، وفي الإبادة وسيلةً لحماية النفوذ. لم يكن خطابه مجرد تأييدٍ سياسي، بل تبنّياً كاملاً لجرائم الحرب التي ارتُكبت ضدّ شعوب المنطقة، وكأن ترامب قرّر أن يمنحها غطاءً مقدساً تحت اسم “الدفاع عن النفس”.
الخطير في حديثه أنه أعلن بوضوحٍ استمرار تزويد الكيان بالسلاح الأميركي رغم إدانة المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو ووزير جيشه السابق كمجرمي حرب، وهو ما يمثل تحدّياً فاضحاً للعدالة الدولية وللقيَم التي تدّعي الولايات المتحدة أنها تحميها. لم يُخفِ ترامب فخره، بل كرّر أنّ “أمن الكيان من أمن أميركا”، في خطابٍ يعيد إنتاج فكرة أن دماء الآخرين مجرد ثمنٍ لبقاء النفوذ الأميركي والصهيوني.
والأخطر من ذلك أنّ تصريح ترامب العلني باستمرار تمويل وتسليح الكيان رغم صدور قرارات إدانة دولية بجرائم حرب، يُعدّ في ذاته جريمة حرب وفق القانون الدولي. فالقانون لا يكتفي بإدانة من ينفّذ الجريمة، بل يحمّل المسؤولية أيضاً لكلّ من يساعد أو يسهّل أو يموّل ارتكابها. وتنص المادة (25) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن “كلّ من يُسهِم بأيّ شكلٍ من الأشكال في ارتكاب جريمةٍ تدخل في اختصاص المحكمة، يكون مسؤولاً عنها ويخضع للعقاب وفقاً لنظامها”. وبهذا المعنى، فإنّ ترامب نفسه شريكٌ مباشر في الجريمة، ومسؤوليته لا تقلّ عن مسؤولية من نفّذ القصف أو ضغط على زر الصاروخ. إنّ هذا التصريح لا يُدينه أخلاقياً فحسب، بل يضعه قانونياً في صفّ المجرمين الذين يجب أن تطالهم العدالة الدولية.
الحديث عن القنابل والصواريخ الأميركية جاء في سياقٍ يثير الاشمئزاز، إذ راح يعدد أنواعها ودقّتها وكأنها إنجازٌ تكنولوجي يستحق التصفيق، متجاهلاً أنّ هذه الأسلحة نفسها هي التي مزّقت أجساد المدنيين في غزة، ودمّرت المستشفيات والمدارس ودور العبادة. والمفارقة المؤلمة أنّ من يُفترض أن يكون “زعيم العالم الحر” يتحدث عن الإبادة الجماعية وكأنها إعلانُ انتصارٍ أخلاقي.
لم يكتفِ ترامب بتبرير جرائم الكيان، بل تفاخر بالعدوان على إيران، متحدثاً عن “عملية مطرقة منتصف الليل” التي أوْدت بحياة عددٍ من العلماء الإيرانيين، معترفاً بأنّ العملية نُفذت بتنسيقٍ كامل بين واشنطن والكيان. هذا الاعتراف وحده كفيلٌ بإدانته، لأنه يشرعِن الإرهاب كسياسةٍ رسمية، ويجعل من الاغتيال والتدمير أداةً لحماية ما يسمّيه “الأمن القومي الأميركي”، وكلّ ذلك خارج أيّ إطارٍ قانوني أو تفويضٍ أممي، في خرقٍ صريحٍ لميثاق الأمم المتحدة ولأبسط مفاهيم السيادة.
الخطاب أيضاً حمل نغمة تهديدٍ واضحة لبقية دول العالم، حين قال ترامب إنّ من يقف ضدّ الكيان “سيواجه قوةً لم يشهدها من قبل”، وهي عبارة تكشف بوضوحٍ ذهنية الرجل الذي يرى السياسة ساحة صفقاتٍ وابتزاز، لا منظومة قيمٍ وعدالة. لقد كانت رسالته للعالم بسيطةً وخطيرةً في آنٍ واحد: إمّا أن تخضع لمن يملك السلاح، أو تُعاقَب بلا رحمة.
أما مشهد تصفيق أعضاء الكنيست فكان ذروة الانحطاط الأخلاقي. تصفيقهم لم يكن تقديراً لخطابٍ سياسي، بل موافقةً جماعية على فكرة أنّ الدم يمكن أن يكون وسيلةً للشرعية. تحوّل البرلمان في تلك اللحظة إلى منصةٍ لتطبيع الجريمة، وترامب إلى شريكٍ معلنٍ في كلّ قنبلةٍ سقطت وكل روحٍ أُزهقت.
من يستمع إلى ترامب لا يمكنه تجاهل الطابع النفسي لخطابه؛ فهو مزيجٌ من النرجسية المرضية وجنون العظمة. يستخدم لغة المنتصر المتعالي الذي يرى نفسه فوق القانون وفوق التاريخ، ويُضفي على جرائمه طابعاً دينياً حين يتحدث عن “النصر الإلهي” و“الهيمنة العادلة”. في الحقيقة، لم يكن الخطاب سياسياً بقدر ما كان بياناً أيديولوجياً لتبرير الإبادة، يربط القوة بالحق، والدين بالحرب.
ما فعله ترامب والكيان معاً هو تقويضٌ كاملٌ لمفهوم القانون الدولي، وتحدٍّ لكلّ الاتفاقيات التي وُضعت لحماية الإنسان من وحشية الحروب. إنهما يضعان العالم أمام مرحلةٍ جديدة من الفوضى، حيث يتحوّل الجاني إلى بطل، والمحتلّ إلى ضحية، وتُستخدم الشعارات الدينية لتبرير الجرائم الجماعية.
لقد كشف خطاب ترامب أنّ الولايات المتحدة، تحت قيادته، لم تعد راعيةً للديمقراطية كما تدّعي، بل غدت راعيةً للإبادة ومصدراً للخراب الأخلاقي والسياسي. كان يتحدث وكأنّ الدم البشري وقودٌ لمجدٍ شخصي جديد، وكأن القوة وحدها تصنع التاريخ. وإنْ لم يتحرك العالم لوقف هذا الانحراف، فقد نصحو يوماً على واقعٍ مروّع: قنابل تُبارك باسم الرب، وجيوشٌ تقتل باسم الحرية.
وانطلاقاً من خطورة ما تضمّنه خطاب ترامب من اعترافٍ صريحٍ وتفاخرٍ بأفعالٍ تمثل انتهاكاتٍ جسيمة للقانون الدولي الإنساني، فإنّ من الواجب على المجتمع الدولي، وفي مقدمته المحكمة الجنائية الدولية، أن يباشر تحقيقاً مستقلاً وشاملاً في هذه الانتهاكات التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية. كما يجب ألا يُستثنى أيّ مسؤول، مهما كانت صفته أو موقعه السياسي، من المساءلة القانونية عن دوره في التحريض أو التواطؤ أو المشاركة في أعمال الإبادة. إنّ إحالة ترامب إلى المحكمة الجنائية الدولية ليست مسألة انتقامٍ سياسي، بل واجبٌ قانوني وأخلاقي يهدف إلى ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب وصون ما تبقّى من هيبة العدالة الدولية…
وفاء بهاني