مقدمة
شهدت الآونة الأخيرة تصاعدًا لافتًا في حركات الاحتجاج الشبابية حول العالم. جيلٌ نشأ في بيئة رقمية متصلة، تميّز بمهارات سرعة الوصول إلى المعلومات والقدرة على تنظيم الذات عبر منصات التواصل الاجتماعي، جيل يختلف من ناحية النشأة عن سابقيه وأطلق موجات احتجاجية تصنفها السرديات السائدة بين “حراك شعبي” و”ثورة ملوّنة”. هذه المقالة محاولة تحليلية معمّقة تبحث في هذا السؤال المحوري: هل ما نراه من حراك جيل زاد هو تعبير شعبي عفوي عن مطالب اجتماعية حقيقية؟ أم أنّه يتقاطع في بعض مظاهره مع آليات التوجيه والاختطاف الرمزي والسياسي التي وُصفت في الأدبيات بـ”الثورات الملوّنة”؟

الإطار النظري: الثورة الملوّنة — تعريفٌ وإعادة تأطير

قبل كل شيء، لا بدّ للقارئ أن يعرف ماذا تعني هذه الكلمة التي أصبحت رائجة في الإعلام ووسائل التواصل.
الثورة الملوّنة هي عملية منظمة لإسقاط نظام حكم من خلال حركة شعبيّة لاعنفيّة مخطَّطة استراتيجيًا تستهدف إضعاف طاعة الجمهور تجاه السلطة عبر تكتيكات اجتماعيّة وسيكولوجيّة وإعلاميّة مدروسة، مدعومة أحيانًا بمصادر خارجيّة (ماليّة ولوجستيّة واستخباراتيّة)، وتستثمر الرمزية الإعلامية والتظاهر المدني لخلق أزمة شرعية تدفع إلى رحيل الحاكم أو تغيير النظام. استُخدم هذا المصطلح لأول مرة بعد أحداث في دول القوقاز وأوكرانيا في منتصف الألفية الأولى (كل بلد تبنّى لونًا سُمّيت حركته بـ”الثورة الملوّنة”).

مكوّنات/سمات رئيسية مستمدة من النص:

1. طبيعتها لاعنفيّة ومنهجية: تعتمد على تحضير استراتيجي وتطبيق تكتيكات وصفها جين شارب (قائمة الـ198 تكتيكًا) بدلاً من العنف المباشر.

2. استهداف طاعة الجمهور: فكرة المحوَر — أن قوة النظام تقوم على امتثال الجماهير، فلا بد من إضعاف هذا الامتثال (عزل رجال الأمن، السخرية، تعبئة شرائح اجتماعية رمزية).

3. تكتيكات اجتماعية وسيكولوجية ورمزية: أمثلة: السخرية، إشراك الأطفال والنساء وكبار السن، إغلاق الطرق، قرع الأواني أثناء النشرات، توزيع الورود على الجنود، اقتحام رموز النظام.

4. دور الإعلام والفضائيات ووسائل التواصل: استثمار البثّ التلفزيوني ووسائل الإعلام العالمية والمحلية ونشر مواد مرئية لتشكيل رواية ثورية وتحقيق انتصار رمزي.

5. تخطيط وتدرُّج عملياتي: ليست احتجاجات عفوية فقط — بل تخطيط متدرّج؛ ولا بد من تجنّب البدء دون استراتيجية (تحذير شارب بعد تيانآنمين).

6. دعم خارجي محتمل: وجود دور استخباراتي وتمويل وتدريب خارجيين.

7. تركيز على شخصية الحاكم: تحويل الغضب إلى شخصنة لتهيئة انهيار شرعية النظام.

8. هدف عملي وسياسي بعد الإطاحة: الحاجة إلى خطة لما سيحلّ بعد إسقاط الحاكم.

جيل زاد: بين الثقافة الرقمية والوعي السياسي

يشير مصطلح “الجيل زد” إلى الأفراد المولودين ما بين منتصف تسعينيات القرن العشرين وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ووفقًا لمركز بيو للأبحاث، تُحدد هذه الفترة عادة بين عامَي 1997 و2012، وهي مرحلة زمنية تميّزت بالانتشار الواسع للهواتف الذكية وبروز وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، بحيث أصبح التواصل الفوري والوجود الرقمي جزءًا لا يتجزأ من تكوينهم الاجتماعي والثقافي.

ظهر الحراك الذي تبنّى هذا الاسم في البداية في إندونيسيا (بسبب، طبعًا، سيطرة أبناء هذا الجيل على الحراك)، ورمزه شعار جمجمةٍ مرتديةٍ قبعة؛ وهو مستمدّ من الأنمي “ون بيس” تحديدًا من شخصية لوفي. سرعان ما انتشر هذا الشعار في النيبال ثم المغرب ثم مدغشقر، وأصبح هذا الشعار لهذا الحراك رمزًا عالميًا شبابيًا لجيل يريد التغيير ويرفض القديم الذي لم ينتج سوى القمع والبيروقراطية…

في الفقرة القادمة سنحلل أبرز البلدان التي ظهر فيها هذا الحراك.

من إندونيسيا والنيبال إلى المغرب

في أوائل عام 2025، واجهت إندونيسيا موجة من السخط قادها إلى حدّ كبير الجيل Z، الذي ازداد انتقادُه للفساد وعدم المساواة الاقتصادية وما اعتبروه تآكلًا بطيئًا للحريات الديمقراطية. حشد الطلاب والعمال الشباب عبر الإنترنت وفي الشوارع، مستخدمين الفكاهة والميمات والثقافة الشعبية للتعبير عن الإحباط السياسي بطرق بدت جديدة وأصيلة لجيلهم. وسط هذه الاحتجاجات، ظهر رمز جديد: علم قراصنة “ون بيس”، الذي يحمل جمجمة قبعة القش لبطل الأنمي، مونكي دي لوفي. عرضَه سائقو الشاحنات أول مرة ثم المتظاهرون الطلاب، وسرعان ما أصبح العلم اختصارًا بصريًا للتمرد والتضامن (ستريتس تايمز، 2025). لم يعكس اعتماده الشعبية الهائلة للأنمي الياباني في جنوب شرق آسيا فحسب، بل عكس أيضًا صداه مع موضوعات متعلقة بالحرية والولاء ومقاومة السلطة الفاسدة. مع انتشار صور العلم على مواقع التواصل الاجتماعي استنكرت السلطات استخدامه، مما زاد من جاذبيته دون قصد.

وهكذا تطوّر ما بدأ كمرجع ثقافي إلى رمز عابر للحدود الوطنية، يجسد تحدي الشباب والاحتجاج الأخلاقي.

سرعان ما وصلت الموجة الرمزية التي بدأت في إندونيسيا إلى نيبال، حيث تسلّلت مشاعر مماثلة من الإحباط السياسي والاغتراب الجيلي بين الشباب. في كاتماندو وغيرها من المراكز الحضرية، بدأ الطلاب والناشطون النيباليون في عرض علم قراصنة “ون بيس” خلال المظاهرات التي تنتقد البطالة والفساد وبطء وتيرة الإصلاح السياسي. بالنسبة لعديد من المتظاهرين النيباليين من الجيل Z، فإن ارتباط العلم بقراصنة قبعة القش قدّم لغةً مشتركة للمقاومة تتجاوز الحدود الوطنية. كان استخدامه مرحًا وعميقًا في الوقت نفسه؛ فقد تحول مرجع الثقافة الشعبية إلى نقد للحكم في العالم الحقيقي. وكما هو الحال في إندونيسيا، فإن استنكار السلطات واهتمام وسائل الإعلام عزّزا مكانة العلم كرمز جيلي للشجاعة والأمل. يؤكد هذا الانتشار الآسيوي لرمز خيالي على ظهور هوية شبابية متصلة رقميًا، حيث يمكن أن تصبح السرديات الثقافية من الرسوم المتحركة اليابانية أدواتٍ قوية للتعبير السياسي.

سرعان ما وصل هذا الرمز إلى المغرب الأقصى، فشهدت البلاد خلال أواخر سبتمبر 2025 بروز حركة شبابية جديدة تُعرف باسم “جيل زد 212″، وهي تجمع رقمي غير هرمي ظهر كرد فعل على تدهور الخدمات العامة، خصوصًا في قطاعي الصحة والتعليم. نشأت الحركة بعد موجة غضب عمّت مدينة أكادير بسبب سوء أوضاع المستشفيات، قبل أن تتوسع إلى مدن كبرى مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة. تعتمد الحركة على منصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وإنستغرام وديسكورد في التعبئة، وتؤكد سلميتها وابتعادها عن الانتماءات الحزبية، رافعةً شعارات تتمحور حول “الحرية، الكرامة، والعدالة الاجتماعية”. وفقًا لإدريس السدراوي، رئيس الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، فإن مطالبها “اجتماعية صرفة وواقعية”، وتشمل إصلاح التعليم العمومي، وتعزيز المنظومة الصحية، ومحاربة الفساد، وتوجيه الإنفاق العمومي نحو الخدمات الأساسية بدل المشاريع الاستعراضية.

أما بالنسبة لمدغشقر، فقد أدى الحراك إلى تصاعد الاضطرابات هناك عقب مقتل 22 شخصًا على الأقل في احتجاجات بدأت في 25 أيلول/سبتمبر رفضًا لانقطاع التيار الكهربائي المتكرر ونقص المياه. يعيش ثلثا سكان مدغشقر في فقر مدقع. وتواجه البلاد، التي تنتج 80% من الفانيليا في العالم، رسوماً جمركية أمريكية مرتفعة في ظل إدارة ترامب. وقد أدى انتهاء العمل بقانون النمو والفرص في أفريقيا، الذي سمح للبلاد بالوصول إلى السوق الأمريكية معفاة من الرسوم الجمركية، إلى تعريض نحو 120 ألف وظيفة في مدغشقر للخطر.

يوم الإثنين، عيّن راجولينا الجنرال روفين فورتونات زافيسامبو رئيسًا جديدًا للوزراء، فيما اعتبره كثير من الملغاشيين محاولةً للتشبّث بالسلطة من خلال الدعم العسكري. وأفادت صحيفة “مدغشقر تريبيون” أنّ “تعيين جندي رفيع المستوى كان غالبًا خيارًا للقادة الملغاشيين في أوقات التوتر السياسي، بهدف إبراز هذه الصورة من الحزم، وكذلك لمغازلة القوات المسلحة”. وقد رفض المتظاهرون حوارًا وطنيًا كان من المقرّر عقده يوم الأربعاء، وأمهلوا راجولينا 48 ساعة للاستقالة أو مواجهة إضراب عامّ.

تزامنت كل هذه الحركات الاحتجاجية مع احتجاجات شبابية أخرى مشابهة في بيرو ونيبال، وبدأ يستعمل هذا الرمز أيضًا في تحرّكات في تونس لأسبابٍ عدة، أبرزها تردي الأوضاع البيئية في مدينة قابس جنوبي البلاد.

الآن السؤال الذي يطرح هو: هل يمكن اعتبارهم موجة جديدة من الثورات الملونة أم بالفعل حركة شبابية شعبية تمتلك مشروعية؟

حراك «جيل زاد» يحظى بمشروعية حقيقية لا يمكن تجاهلها؛ فإنه لم ينشأ من فراغ، بل هو نتاج تراكم مشكلات اقتصادية واجتماعية وصحية — من بينها البطالة، وارتفاع الأسعار، وتدهور البيئة، وقمع الحريات — التي دفعت قطاعات واسعة من الشباب إلى الاحتجاج. وإن صحت تسمية هذه الحركات بـ«ثورات اجتماعية» في بعض البلدان، فإن الإشكال الحقيقي يكمن في هشاشة بنيتها الداخلية أمام عمليات الاختراق والتوجيه الخارجي. فإذا لم تُحصّن الحراكات من الداخل، يصبح من السهل اختراقها أو تحوير توجهاتها، وإبعادها عن أهدافها الأصلية لصالح مصالح إمبريالية — لاسيما الأمريكية — أو لإعادة تموضع سياسي داخل البلد (مثلًا لإزاحة نظام معادٍ أو لتقوية بديل أكثر توافقًا مع مصالح الخارج). هذا ما شهدناه في تجارب متعددة مثل أوروبا الشرقيه في نهايات القرن الماضي وبدايات الألفية في بعض الدول العربية. وفي حالة نيبال، ظهر دعم رمزي أو مادي من جهات مثل السفارة الأمريكية وشركات دولية كـ”كوكا كولا” وشخصيات بارزة كالدالاي لاما، مما يزيد احتمال أن تكون ثورة ملوّنة. وما دام غياب معطيات مماثلة في دول أخرى لا يمنع احتمالية تكرار الاختراق في المستقبل، لذا يبقى تعزيز مناعة الحراك داخليًا حجرَ الأساس للحفاظ على أهدافه.
نذير محمد-تونس