منذ الاستقلال وحتى اليوم، يعيش لبنان على إيقاع طبقة سياسية تتوارث الزعامة جيلاً بعد جيل، في ظاهرة لا تنفصل عن بنيته الطائفية والمناطقية، لكن المفارقة أنّ هذا الإرث السياسي لم ينتج رجال دولة بقدر ما أنجب ما يمكن وصفهم بـ”صبية السياسة” من أبناء وأحفادٍ لزعامات تقليدية، يتزعّمون أحزاباً ويترأسون حكومات، يعتلون المنابر ويحتلون المقاعد النيابية والوزارية لا بفضل كفاءاتهم بل بسبب التركيبة اللبنانية الطائفية المذهبية العجيبة، ويواجهون القضايا المصيرية بمواقف مرتجلة، سطحية، ومشحونة بالعصبيات الطائفية، غالباً بما يخدم أجندات خارجية أكثر مما يخدم المصلحة الوطنية.
النموذج اللبناني للزعامة السياسية هو نموذج العائلة قبل الحزب والأمثلة كثيرة والقاعدة تكرّر نفسها، فالزعامة لا تموت إمّا مهيمنة من إفرازات الحرب الأهلية تؤدّي دوراً ومهمَّةً رسمتها غرفاً مظلمة أو متوارثة كابر عن كابر ومن أبٍ لإبنٍ لحفيدٍ على أكتاف الشعب العنيد، زعاماتٌ لا تجربة سياسية لها ولا خبرة واضحة والفشل لازمةٌ لها تاريخياً، إرثٌ عقيم تنتقل فيه عِقدٌ شخصيَّة وأحقادٌ طائفية عفِنة، خِطابٌ متشنِّج تحت عناوين وشعارات كاذبة، أكذبُها على الإطلاق الوطن والسيادة والإستقلال، مداهنون متملِّقون حتى الدونية لأطماع الخارج ومبعوثيه ومشاريعه المشبوهة، ديماغوجيون مقيتون مرتزقة يتلاعبون بعقول النَّاس وعواطفها وعجزٌ واضح عن قيادة المشهد السياسي مع ضحالةٍ في الموقف والرأي والتحليل وارتجالٌ في الخطاب، تخبّطٌ بين الالتزامات الخارجية وواقع الداخل اللبناني أوْصل البلاد والعباد إلى توترٍ سياسيٍّ في الشكل وطائفيٌّ حاقدٌ في المضمون، وراثة وهيمنة لا تُنتج بالضرورة خبرة سياسية بل على العكس فإنّ هؤلاء الصبية في لبنان كثيراً ما أظهروا انفصامهم وانفصالهم عن الواقع حتى انغمسوا في شعارات ومواقف سطحية أنتجت خليطاً عجيباً من العصبية الطائفية والانعزالية وارتهاناً للخارج فيما يغيب أيّ مشروع وطني حقيقي متكامل يعالج أزمات عمرها عقوداً من الزمن.
إنّ الأخطر في ذلك أنّ هذه السطحية ليست بريئة، بل هي غالباً كيدية تُستخدم لتغذية الانقسام الطائفي والمناطقي وشارعٌ يقابله شارع بما يتماشى مع أهداف المشاريع الإقليمية والدولية هم فيها واجهة رخيصة محلية داخلية لها، حيث يأتي رفع الشعارات الطنانة والرنانة على شاكلة إنهاء هيمنة السلاح وحصريته ونزعه وتدميره في انسجام كامل مع خطاب واشنطن والرياض وتل أبيب مع تبني البعض لخطابٍ ملتبسٍ حول “الحياد” في الصراع مع العدو الصهيوني يوازن بين الضغط الغربي والعربي الرجعي المطبِّع والمهزوم وبعض المزاج المحلي الطائفي من دون أيّ رؤية وطنية أو حتى النقاش في استراتيجية دفاعية تحفظ قوة لبنان في وجه المخاطر والتهديدات، وبعضٌ آخر منهم في سلوكه السياسي المرتهن أوضحُ مثالٍ على هذا الارتباط بهذه المشاريع المشبوهة في مشهدٍ يكرِّسُ صورة التبعية بدل الاستقلالية في الموقف والقرار وفق الإدِّعاء.
إذا كانت الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) قد عززت منطق الزعامات الموروثة والمهيمنة عبر تحصين “المحميات الطائفية”، فإنّ مرحلة ما بعد الطائف وما تلاها من حروبٍ إسرائيلية وأزمات داخلية من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري 2005 إلى عدوان تموز وآب 2006 وفوضى الغوغاء في 17 تشرين 2019 وانهيار الدولة في ما بعد، كشفت عجز هذه الطبقة وخاصة الأجيال الجديدة منها والقادمون الجدد حديثو النعمةِ على المسرح السياسي وأظهرت عدم قدرتهم على إنتاج أية حلول وتعقيد الأزمة السياسية القائمة، حيث يعيشون في عالم من الشعارات يرفعون رايات “السيادة” و”الحياد” و”الإصلاح” و “الديموقراطية” و”الحرية” فيما لا يملكون مشروعاً اقتصادياً، اجتماعياً، أو وطنياً سيادياً يحفظ أهله وكرامته وسيادته، والأدهى أنّهم لا يرون في الحكم مسؤولية بل امتيازاً يتوارثونه كما تُورّث الأراضي والعقارات أوهيمنة وتسلُّطٍ طائفي مقيت.
إنَّ لبنان اليوم يدفع ثمن سيطرة هذه الطبقة السياسية التي لا تزال تُعيد إنتاج نفسها عبر الوراثة أو التسلُّط حتى بات الذين يحتلون المشهد يتحفون الناس صبح مساء ببطولاتٍ وإنجازاتٍ وهمية وهم لا يملكون سوى خطاب ارتجالي وشعارات متشنجة تجعلهم أقرب إلى أدوات هزيلة في مشاريع خارجية من كونهم رجال دولة، وفي ظلّ هذه الأزمات المتراكمة يبدو أنّ مستقبل لبنان سيظلّ مقلقاً مترجرجاً ومرتهناً لحين كسر هذه الحلقة المفرغة وإلا فالتاريخ سيعيد نفسه جيلاً بعد جيل على حساب الوطن وشعبه.
عماد خشمان